كتبهاهشام زليم ، في 25 أبريل 2011 الساعة: 11:36 ص
حقوق الأندلس على المغاربة.
بقلم هشام زليم.
في
خضم الحراك السياسي الذي تشهده المملكة المغربية بعد الخطاب التاريخي
لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في التاسع من مارس 2011, تعالت
الأصوات المنادية بدسترة المكون الأندلسي كجزء من الهوية المغربية و إعادة
الاعتبار للثقافة الأندلسية عبر إنشاء معهد ملكي للثقافة الأندلسية يرعى
شؤونها و يحفظها من الاندثار.
إن
مسألة دسترة الهوية الأندلسية كمكون أساسي من مكونات الأمة المغربية, إلى
جانب الأمازيغية و العربية, هو أمر يجب التوقف عنده مليا قبل إصدار الأحكام
المسبقة, المسفِهة و المحتقِرة.
لا
يشك أي مغربي في مدى الترابط الكبير بين المغرب و الأندلس منذ القدم,
ترابط وصل حد الانصهار و شكلت الجغرافية أهم عوامله, فالمغرب أقرب إلى
الأندلس من باقي أوربا, ذلك أن عبور مضيق أسهل عشرات المرات من عبور سلسلة
جبال, مما سهل التواصل على الدوام بين سكان الضفتين منذ آلاف السنين, و
يفسر سرعة اعتناق الأندلسيين لدين الإسلام مباشرة بعد اعتناق المغاربة له,
مع العلم أن 200 سنة لم تكف الإمبراطورية الرومانية, قبل ذلك, لفرض
الكاثوليكية على الشعب الأندلسي ! لقد
كان المغاربة و الأندلسيون جسدا واحدا, حتى في أعين المؤرخين المشارقة و
الأوربيين, فالأولون أطلقوا عليهما المغاربة, و الآخرون نعتوهم جميعا
بالموروس.
و
قد كان تاريخ المغرب و الأندلس, بعد ذلك, انعكاسا لهذا الانصهار, فكانت
الدولة الأموية بالأندلس و التابعة لعبد الرحمان الداخل أول سلطة سياسية
تجمع ضفتي المضيق تحت سلطانها, ثم تلتها الإمبراطوريات المرابطية و
الموحدية ثم المرينية, قبل أن يضعف سلطان المغرب, و الأندلس, إذاك, في أمس
الحاجة إليه لتكالب القشتاليين و المرتزقة الأوربيين عليها من كل حدب و
صوب. رغم الظروف الصعبة, استطاعت الإمارة المسلمة المحاصرة
بغرناطة الصمود طيلة قرنين بفضل مقاومة أهلها, حكمة أمرائها و انضمام آلاف
المغاربة للمرابطة هناك. لكن كان قدر الأندلس السقوط نهائيا سنة 1492م
بتسليم غرناطة, ففُصل المغرب, إلى حين, عن أندلسه و الأندلس عن مغربه.
فقررت طائفة كبيرة من الأندلسيين الانتقال إلى المغرب فرارا بدينهم من
التنصير الإجباري الذي أقره الملوك الكاثوليك, و استمرت هذه الهجرات على
خلسة من محاكم التفتيش إلى سنة 1609م حين قرر ملك إسبانيا فليبي الثالث طرد
جميع المورسكيين –الأندلسيون المسلمون باطنا و النصارى ظاهرا- من إسبانيا
فرُحِّل عشرات الآلاف منهم إلى المغرب و توزعوا على مدنه و قراه فأحيوا قرى
ماتت و بعثوا مدنا كاد يطويها النسيان.
وصول
الأندلسيين-المورسكيين إلى المغرب, لا يجب أن يعتبر هجرة من وطن إلى وطن, و
إنما هجرة داخل نفس الوطن. لأن الأندلسيين-المورسكيين لما حطوا رحالهم في
المغرب وجدوا طائفة كبيرة من الأندلسيين سكنت المغرب قبل سقوط الحواضر
الإسلامية بالأندلس, و وجدوا الثقافة الأندلسية منتشرة و قد تشربها
المغاربة منذ قرون. يقول الأستاذ محمد بن شريفة: "
إن الصلات بين المغرب الأقصى و الأندلس قديمة ترقى إلى التاريخ القديم, و
هي صلات فرضتها طبيعة الجوار و أملتها المعطيات الجغرافية…" و يتابع: "فمن
المعروف أن الأندلس بعد فترة الطوائف قد اندمجت في الإمبراطورية المرابطية
و الموحدية, أي خلال أكثر من ثلاثة قرون, كما أن دولة بني نصر في مملكة
غرناطة لم يكن لها أن تكون لولا بنو مرين, و قد كان لهذا الاندماج آثار لا
تُحصى و لا تُعد في الأندلس و المغرب, و تم تفاعل كبير بين البلدين و
الشعبين في مختلف المجالات, و كثر التزاور و التنقل بين العدوتين, و وقعت
هجرات متعددة مع تغير في ناموس الهجرة, إذ أن اتجاه الهجرة أصبح من الأندلس
إلى المغرب بعد أن كانت الهجرة في القرون الأولى تتجه من المغرب إلى
الأندلس و يمكن تكوين فكرة عن هذه الهجرات من تتبع الأعداد الهائلة من
العلماء الأندلسيين الذين انتقلوا إلى مراكش و فاس و غيرهما, و ذلك من خلال
كتب التراجم, و ظلت وتيرة الهجرة من الأندلس إلى المغرب في تزايد إلى أن
بلغت نهايتها القصوى بعد جلاء المسلمين من الفردوس المفقود”.
"و
قد ظهر أثر ذلك كله في النواحي الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية سواء
في الأندلس أو في المغرب, و مازلنا في المغرب إلى يومنا هذا نلحظ مظاهر ذلك
التواصل الذي كان بين المغرب و الأندلس رغم مرور قرون على نهاية الأندلس. و
ما تزال آثار مادية و معنوية مغربية في إسبانيا إلى اليوم شاهدة على
الوجود المغربي الذي كان هناك, و تعدادها مما لا تتسع له هذه الكلمة, و ما
يزال كذلك تراث الأندلس محفوظا و مستمرا في المغرب, تمثله الأسر الأندلسية
الأصل في عدد من الحواضر و القرى, و نراه في العمارة و الموسيقى و الطبخ و
غيرهما من رقائق الحضارة… , و قد امتزج هذا التراث الأندلسي بالتراث
المغربي فأصبحا تراثا مركبا تركيبا مزجيا.
و أما تفاعل المغرب و الأندلس في مجال العلوم و الآداب فحدث عن البحر و لا حرج". انتهى كلام الأستاذ بنشريفة. (1)
أما شهيد قرطبة الدكتور علي المنتصر الكتاني رحمه الله فيقول: "
كانت علاقة المغرب بالأندلس وثيقة, لدرجة كان البلدان يسميان بالعدوتين:
عدوة الأندلس و عدوة المغرب, كما كون البلدان دولة واحدة أيام الدولتين
المرابطية و الموحدية. و كانت الطبقة المثقفة في البلدين تكاد تكون واحدة,
إذ كان ينتقل كثير من الأفراد و العائلات المغربية إلى الأندلس, و ينتقل
أفراد و عائلات أندلسية إلى المغرب. بينما هاجر الأندلسيون في كل الحقب إلى
مدن المغرب المختلفة.." (2).
و نفس الأمر أكد عليه الأستاذ المجاهد محمد إبراهيم الكتاني رحمه الله, عندما قال:
”و الأندلس الإسلامية مغربية, و كذلك سمى النصارى الأسبان جميع المسلمين
بالمغاربة "المورو", و سمى عرب المشرق الأندلسيين مغاربة, و أدخلوهم في
أوقاف المغاربة في الحجاز و بيت المقدس, و في رُواق المغاربة في الأزهر
بمصر. فبمجرد ما أكرم الله المغاربة بالدخول في الإسلام سارعوا إلى إدخاله
إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد المغربي. و استشهد الكثيرون منهم, و استقر
كثيرون آخرون هناك للدفاع عن الإسلام و المسلمين. و توحد الشعبان في نطاق
الإسلام و الثقافة الإسلامية, و لم يؤثر اختلاف الأنظمة الحاكمة في هذه
الوحدة الشعبية إطلاقا."
"و
كذلك كان التنقل بين "العدوتين", الأندلسية و المغربية, عبر البوغاز, أو
المجاز, أمرا عاديا مستمرا في الاتجاهين. و كان الأتقياء من المغاربة
يذهبون إلى المرابطة في الأندلس في مواعيد محددة, ثم يعودون إلى ديارهم." و لما اشتدت وطأة القشتاليين على الدولة الأندلسية "استغاثت
بيوسف ابن تاشفين, فقاد معركة الزلاقة المظفرة التي زادت في عمر الإسلام
بالأندلس أربعة قرون, و أصبحت الأندلس جزءا من الإمبراطورية المرابطية ثم
الموحدية… و كان الأندلسيون يتولون فيها مناصب سامية, و فضل بعضهم مغادرة
الأندلس و الاستقرار في مختلف أنحاء هذه الإمبراطورية الشاسعة الأطراف…" "و
حتى عندما انفصلت الأندلس عن المغرب على عهد الدولة المرينية, بقي المغرب
مرتبطا ارتباطا عضويا متينا بمشاكل الأندلس. و قد نشرت أكاديمية المملكة
المغربية ديوان ابن فركون, و قد تضمن مضامين تاريخية, و هي مضامين تعرض
لأول مرة و تكشف النقاب عن محنة دولة مجيدة هي دولة بني مرين التي قدمت
الكثير لأهل الجزيرة اليتيمة, و ضحت بالغالي و النفيس في سبيل نصرة الإسلام
بالفردوس المفقود." و واصل قائلا:
"كان فضل الدولتين السعدية أولا, و العلوية ثانيا, لا يقدر في المحافظة
على الإسلام بالمغرب و ضد الاعتداءات الصليبية عليه, و محاولة تحرير شواطئه
المختلفة, و كانت وقعة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة), التي قضت على
الدولة البرتغالية بانضمامها إلى العرش الإسباني, بعدما كانت دولة عالمية,
معركة فاصلة في إفشال المخطط الصليبي الجهنمي الهادف إلى القضاء نهائيا
على الإسلام في المغرب العربي, شرقه و غربه. و تعتبر مشاركة الأندلسيين في
المعركة من باب مشاركة جميع العناصر المغربية التي ساهمت بصفة طبيعية فيها,
كل من موقعه الخاص. كما اعتاد المغاربة طوال القرون السابقة أن يتسابقوا
تلقائيا إلى المشاركة في مختلف المعارك الأندلسية باعتبارها معاركهم
الخاصة" (3)
على
ضوء هذا التاريخ المشترك و المتداخل في بعضه, لا يمكن اليوم تجاهل الصبغة
الأندلسية للمغرب أو التهوين منها و استصغارها, فالمغاربة, بكل أطيافهم,
انخرطوا كل الانخراط في بناء صرح الحضارة الأندلسية و بدلوا الغالي و
النفيس لحفظها على الأرض, و أي استصغار للمكون الأندلسي في الهوية المغربية هو استصغار لتضحيات الأجداد و مجهوداتهم.
لقد أثر هذا التمازج التاريخي بين المغرب و الأندلس على جميع مناحي الحياة, فاختلط ما هو مغربي بما هو أندلسي, فأعطيا مزيجا حضاريا فريدا
صبغ المظاهر التقليدية للمغرب بصبغة خاصة و غنية سواء في فن العمارة,
الفلاحة, الصناعة, اللباس, الطبيخ, الموسيقى ,الحدائق, تصاميم البيوت و
طريقة النطق.
ففي فن الطبيخ مثلا, ما يزال عدد من ألوانه الأندلسية معروفا عندنا إلى اليوم ك"التفايا" , البسطيلة, السفنج…إلخ.
و في اللباس, كان التأثير الأندلسي بارزا من خلال أزياء كالسلهام, البلغة, المضمة, القفطان…
هذا
ناهيك عن الكتب و المؤلفات الأندلسية التي أغنت مكتبات و خزانات المملكة, و
الحرف الصناعية التي اشتهرت بالجزيرة ثم انتقلت إلى المغرب و الطرق
الزراعية الفريدة …و الحديث عن هذه المظاهر يطول مما لا يتسع المجال لذكره
هنا.
لقد
خلفت الحضارة الأندلسية تراثا هائلا في شتى العلوم و الفنون و الآداب,
تراث تعرّض جزء مهم منه للحرق و التدمير و السلب. و هو اليوم يشكو الإهمال و
النسيان, فلا دولة تتبناه رسميا و تذود عنه بما فيه الكفاية, و لا مؤسسة
تطالب بإرجاع ما سُلب منه, و لا باحثين ينقبون عما خفي منه و يرممون ما
أوشك على السقوط منه. مساجد و معالم أندلسية منسية, كتب في علوم حية,
تفاسير للقرآن العظيم, تراجم و كتب تاريخ و أدب…هي تنتظر من يطالب بها و
يخرجها من مراقدها, و إننا نرى إنشاء معهد ملكي للثقافة الأندلسية يرعى و
يقوي مكانة المغرب كخزان حافظ للتراث الأندلسي, ضرورة ملحة لإدراك هذا
الغرض النبيل الذي هو اعتراف لما قدمته الحضارة الأندلسية و لازالت تقدمه لمغربنا, و استمرار على نهج بدأه الأجداد ; يقول الأستاذ محمد بن شريفة: "إن
العناية بتراث الأندلس وجدت في المغرب منذ وجود الأندلس…و ثمة أمثلة لا
حصر لها من العناية بهذا التراث في عهود المرابطين و الموحدين و المرينيين,
وفي "العبر" لابن خلدون و "القرطاس" خبر مفصل عن ثلاثة عشر حملا من الكتب
أهداها ملك إسبانيا إلى السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني و يوجد بعضها
إلى اليوم في خزانة القرويين. "
"و
قد ظل إهداء الكتب و استهداؤها و طلبها من ملوك إسبانيا قائما إلى عهد
دولتنا العلوية الشريفة كما تدل على ذلك رحلات السفراء و لاسيما رحلة محمد
بن عبد الوهاب الغساني, و هكذا فإن العناية بتراث الأندلس لم تنته بنهاية
الوجود الإسلامي في الأندلس, بل إن هذا التراث أصبح بعد ذلك أمانة حملها
المغاربة الذين احتضنوا تراث الأندلس كما احتضنوا أهله". (4)
فمن واجبنا إذن الدفاع عن تاريخ الأندلس بنفس الشكل الذي نذود به عن تاربخ المغرب و ننصفه و نصون ذكراه و نعرف ما نحن مدينون له به.
إن
دسترة المكون الأندلسي كجزء من الهوية المغربية هو إقرار بالمسؤولية
التاريخية للمغرب اتجاه الأندلس, أرضا و حضارة و شعبا, و اعتراف بجزء مهم
من ذاكرتنا الجماعية و تكريم لأجدانا الذين سطروا أمجادا و بطولات للدفاع
عن الوجود الإسلامي بالأندلس, و دعوة لانخراط المغاربة كافة, أمازيغا, عربا
و أندلسيين, في مشروع إعادة الاعتبار للأندلس. فلا مغرب بلا أندلس و لا
أندلس بلا مغرب. إن دسترة المكون الأندلسي هو مشعل سنحمله نحن اليوم, ثم
نتركه لأبنائنا و أحفادنا من بعدنا,و وصية نوصيهم بها كما أوصى يعقوب
المنصور الموحدي شعبه في مرض وفاته. يروي المؤرخ ابن عذارى في تاريخه
"البيان المغرب" اللحظات الأخيرة للسلطان يعقوب: "…ثم
قال رضي الله عنه و عيناه تذرفان دموعا و قال أوصيكم بتقوى الله تعالى و
بالأيتام و اليتيمة, فقال له الشيخ أبو محمد عبد الواحد: يا سيدنا يا أمير
المؤمنين و من الأيتام و اليتيمة؟ قال: اليتيمة جزيرة الأندلس و الأيتام
سكانها المسلمون, و إياكم و الغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها و حماية
ثغورها و تربية أجنادها و توفير رعيتها, و لتعلموا أعزكم الله أنه ليس في
نفوسنا أعظم من همها و نحن الآن قد استودعنا الله تعالى و حسن نظركم فيها
فانظروا أمن المسلمين و اجروا الشرائع على مناهجها". (5)
إن
هم الأندلس هم يحمله جميع المغاربة, و إن اختلفت أعراقهم, و لوعتها كامنة
في أعماق الصدور و صرختها مكبوتة مكظومة منذ عصور. لكن ليس من المنطقي ترك
الحسرة و فقدان الأمل يسيطران على مشاعرنا و أعمالنا اتجاه الفردوس
المفقود, فنبكي كالأطفال تراثا و حضارة لم ندافع عنها كالرجال !, فكم مسألة حار فيها الأجداد أصلحها الأحفاد
!
و لا غالب إلا الله.
الهوامش:
1) من
بحث الأستاذ محمد بن شريفة بعنوان "العناية بتراث الأندلس في المغرب و
إسبانيا", مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية, دورة "التراث الحضاري
المشترك بين إسبانيا و المغرب", غرناطة, 21-23 أبريل 1992.
2) "انبعاث الإسلام في الأندلس", د. علي المنتصر الكتاني, ص 389.
3) "العلامة
المجاهد محمد ابراهيم بن أحمد الكتاني: قصة تأسيس الحركة الوطنية و الحركة
السلفية بالمغرب, و نبذة عن تاريخ علم المكتبات و المخطوطات" جمع و تحقيق
د. علي المنتصر الكتاني. الصفحة: 269-270.
4) تقديم
الأستاذ محمد بن شريفة لندوة "التراث الحضاري المشترك بين إسبانيا و
المغرب", غرناطة, 21-23 أبريل 1992. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.
5) "البيان
المغرب في أخبار الأندلس و المغرب – قسم الموحدين" لابن عذاري المراكشي.
تحقيق الأساتذة: محمد إبراهيم الكتاني, محمد بن تاويت, محمد زنيبر, عبد
القادر زمامة. الصفحة : 231-232.
هشام زليم.
منسق مدونة "صلة الرحم بالأندلس".
الدار البيضاء, الاثنين 25 أبريل 2011.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق