"ماري أنطوانيت, ذئبة نمساوية أم ضحية الملكية و الجمهورية؟". الجزء الأول: نظرة فلسفية.
هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس
ماري أنطوانيت بريشة الرسام السويدي مارتن فان ميتتنس. الصورة أُخذت في فيينا بالنمسا بين عامي 1767 و 1768, و كانت أنطوانيت ماتزال أميرة نمساوية و سنها آنذاك بين 12 و 13 سنة |
الوضع تغيَّر كليا عام 1815 لمّا أعاد سليلٌ لآل بوربون
النظام الملكي في فرنسا. فلإعادة الاعتبار لهذا النظام كان لزاما إعادة الهيبة و
الاحترام للملكة ماري أنطوانيت. هكّذا مُجِدَت الملكة و رُفعت لمقامٍ سامق و
استُميتَ في الدفاع عن شرفها, و نُظِمَ الشعر و استرسلت الكتابات في الحديث عن
روحها العظيمة و حس التضحية لديها و بطولاتها المجيدة. هكذا جعل منها الوَسَطُ
الأرستقراطي "ملِكةً شهيدةً".
تكمُنُ الحقيقة عادةً في المنتصف. فماري أنطوانيت ليست
القديسة التي يُبجلها أنصار الملكية, كما أنها ليست رأس الشر الذي يلعنه أتباع
الثورة و الجمهورية. هي امرأة عادية, ليست فائقة الذكاء و ليست مفرطة في البلادة و
الغباء. ليست مخلوقا من نور, و ليست مخلوقا من نار. لا تميل كل الميل للخير, و لا
ترتمي في أحضان الشر. ليست مُتعطشة للعب أدوار البطولة على خشبة الحياة, و بعيدة
بما يكفي عن صورة البطلة التراجيدية.
غير أن التاريخ لا يحتاج لشخصية عظيمة ليمنحنا ملحمة
تراجيدية. فالتراجيديا لا تتولد فقط من خلال الصفات العظيمة لشخصية ما, بل أيضا من
خلال عدم التكافؤ الحاصل بين الإنسان و قَدَرِه. في العادة تحدثُ التراجيديا عندما
يدخل شخص خارق أو بطل أو عبقري في صراع مع محيطه الذي يكون غالبا عدائيا و ضيق
الأفق بالنسبة للمهمة التي أناطها له قَدَرهُ, كنابليون المنفي في غرفته الضيقة
بسانت هلين أو بتهوفن أسير الصمم, و بشكل عام كل شخصية عظيمة لا تجد مقاسها و مجال
نشاطها. لكن التراجيديا تتجسد أيضا حينما يرتبط شخص عادي أو ضعيف بقَدَرٍ عظيمٍ و
بمسؤوليات شخصية تسحقه و تزلزله, و هذا النوع من التراجيديا أشد وقعا من وجهة نظر
إنسانية. فالشخص العظيم بالفطرة يبحث من تلقاء نفسه عن قَدَرٍ خارق و عن حياة
بطولية, أو كما سماها نيتشه "حياةً خطِرةً" توافق طبيعته الخارقة. يتحدى
العالَمَ بالجرأة المتولدة عن متطلبات طبعه. و بالتالي فالبطل الخارق مسؤول عن
معاناته لأن مهمته تستدعي ركوب الأخطار حتى يستطيع قياس طاقته القصوى. و كالعاصفة
التي تحمل معها النوارس, تأخذه قوة قَدَرهِ باستمرار نحو الأعلى.
في المقابل, الشخص العادي, نظرا لجوهره, لا يسعى إلا
لحياة مسالمة و هادئة. لا يُريد تراجيديا, و لا حاجة له بها أصلا. يُفضلُ العيش في
الظل و على الهامش بعيدا عن القلاقل و العواصف. لهذا يرتعب و يقاوم و يحاول الهرب
حينما تدفعه يَدُ القدر الخفية نحو الاضطرابات و حيث يتلاطم الطوفان. هو لا يريدُ
تحمل مسؤوليات كونية تاريخية, بل بالعكس يخشاها. يشعر بكونه مدفوعا من عوامل
خارجية و ليس داخلية. لا يسعى للمعاناة لكنها تُفرضُ عليه. إنها معاناة من ليس
بطلا, معاناة الرجل العادي, و هي لا تقل عظمة عن معاناة البطل الحقيقي إن لم تكن
أكثر منها عاطفية لكون الرجل العادي يتحمل الألم بمفرده و يكظمه داخله عكس البطل
الخارق القادر على تصريف معاناته و تحدياته و تحويلها إلى أعمال و أشكال خالدة.
لكن القَدَر يَعرفُ أحيانا كيف يقلب كيان هذه المخلوقات
العادية, و بيده الساحرة الخارقة يخرجها من ركودها. و حياة ماري أنطوانيت هي واحد
من أمثلة التاريخ على هذا الأمر. خلال السنوات الثلاثين الأولى من حياتها, من بين
الثمانية و الثلاثين التي عاشتها, سارت هذه المرأة في مسلك دون المستوى رغم عيشها
في وسط راقٍ. لم تتجاوز قط الحدود لا في اقتراف الشر و لا في عمل الخير. روح فاترة
و مزاج عادي. كانت من وجهة نظر تاريخية مُجرد شخصية هامشية, و لولا الظهور
الفُجائي للثورة في عالم لذتها الجامح, لواصلت هذه الأميرة التافهة حياتها في هدوء
كالملايين من النساء في كل العصور؛ كانت سترقص و تُدردش و تُحب و تضحك و تتزين و
تزُور و تتصدق, كانت ستُنجبُ أطفالا, و في النهاية ستتمدد بهدوء فوق سرير الموت,
دون أن تكون قد عاشت فعليا وِفقَ روح ذلك العصر. باعتبارها ملكة كانت ستوضع في
نعشها وسط جو من المهابة و تُحمل إلى القصر, ثم تختفي تماما من ذاكرة الرجال كما
اختفت قبلها أميرات أخريات كماري أديلاييد, أديلاييد ماري, آنا كاترينا و كاترينا
آنا, لازالت شواهد قبورهن قائمة في الغوطة و عليها كتابات فاترة و مهملَة يصعب
قراءتها. ما من أحد كان سيجدُ مُتعة في إخراج ذكراها من سلة النسيان, ما من أحد
كان سيعرف حقيقة ماري أنطوانيت, و هنا نقطة مهمة: ماري أنطوانيت نفسها ما كانت
لتعرف ذاتها و تستوعبها لولا البلاء الذي أصابها.
.. ماري أنطوانيت عام 1793, قبل وقت قصير من إعدامها , بريشة الرسام ألفونس فرونسوا. |
إن الإنسان العادي, سعيدا كان أم تعيسا, مجبول على عدم
الشعور بحاجة داخلية لقياس ذاته و على عدم طرح أسئلة على نفسه طالما القدَرُ لا
يطرحها عليه؛ هكذا إذن يترك طاقاته الغير مستعملة رابضة بداخله, فيُضعفُ مهاراته و
يوهن قواه, و هو بهذا مثل عضلات لا تُستعمل إلا عند المحك و في مواجهة مقاومة
حقيقية. بنفس الشكل, لا تكتشف الذات العادية مدى قدرتها, و بشكل أكثر مما تتوقعه,
إلا عندما تتعدى حدودها, لهذا لا يجدُ القدر سوطا لإيقاظها سوى الابتلاء. و مَثَلُ
القدر هنا كمثَل الفنان الذي يبحث أحيانا عن مادة وضيعة بدل مادة مُؤثرة و كونية
حتى يُعبر بشكل أوضح عن قدرته الخلاقة. فمن حين لآخر يختار القَدَرُ شخصا تافها
ليٌبرهنَ أنه قادر أن يُخرج من مادة هشة كُتلة عظيمة من الإشفاق, و من روح ضعيفة و
خاملة أعلى أنواع التراجيديا منزلة. و ماري أنطوانيت هي واحد من أروع أمثلة
التاريخ على هذه البطولة اللاإرادية.
ببراعة و دهاء سَلسلَ التاريخ الأحداث, و على خشبة فسيحة
حبك خيوط المأساة حول هذه الشخصية العادية, و لحكمة بليغة خلق التناقضات حول هذه
المرأة التي لم تكن مستعدة بما فيه الكفاية للظهور على هذه الخشبة الرهيبة. بمكر
شيطاني شرَع القَدرُ في إشباع رغباتها: كانت ما تزال طِفلة حين منحها قصرا
إمبراطوريا لتعيش فيه, و لما صارت مُراهقة منحها تاج المُلك, و لما صارت شابة
وهبها بسخاء كل عطايا الجمال و الثروة, لكن في المقابل أعطاها قلباً لا مباليا
بقيمة ما هي فيه من نعمٍ و خيرات. ظل القدرُ طيلة سنوات يُدلل هذه الروح الخفيفة و
يستدرجها حتى استفحلت لا مبالاتها و فقدت صوابها. لقد كان القدر يرفع هذه المرأة
إلى قمم النعيم في سرعة و يُسرٍ كي يتركها تتهاوى منها بشراسة محكمة و ببطء قاتل. تستحضر
هذه التراجيديا في واقعية ميلودرامية أشد التناقضات تطرفا, فماري أنطوانيت تحولت
من قصر إمبراطوري ذي غرف لا تحصى إلى زنزانة بئيسة, و من عربة ملكية مُذهبة إلى
عربة الجلاّد, و من العرش إلى المقصلة. لقد رماها القدر من رغد العيش إلى الفاقة و
العوز, من امرأة تحضى بالقبول العام و الجميع يهتف باسمها إلى امرأة محفوفة
بالكراهية و تُقذفُ من كل جانب. باختصار,
ظل القدَرُ يتهاوى بها بلا رأفة حتى بلغت الدرك الأسفل من المهانة. فجأة اجتُثت
هذه المرأة العادية المُمتحَنَة من لامبالاتها, فلم يفهم قلبها الغافل ما تريده
منها هذه القوة الغريبة. لا تشعر إلا بقبضة جبارة تعجنها عجنا, و بمخلب حارق ينغرس
في ذاتها المُعذَّبة. لم تكن معتادة على المعاناة و كانت تخشاها. ظلت تُعارك,
تترنح, تحاول الفرار, لكن القدر كان غير مُتسامحٍ, و كان كفنانٍ لا يترك مادته إلا
و قد استخرج منها كل مفعولها و كامل طاقتها. لم تتوقف التعاسة عن جلد روح ماري
أنطوانيت الرخوة و الضعيفة, حتى استخرجت منها ما تختزنه من حزم و كرامة, فانبجست
منها عيونٌ تفيض بمجد الأجداد المطمور في أعماق أعماقها. هذه المرأة المُمتحَنة
التي لم يحملها الفضول يوما على الاستفسار عن ذاتها, نظرت مُرتعبة في خضم الهاوية
إلى نفسها, و رأت التحول الذي حصل عليها في ذات الوقت الذي انتهت فيه سلطتها
الملكية, فأحست داخلها بميلاد شيء جديد من العظمة لم تكن تتصور ميلاده لولا هذا
الابتلاء. "لا نعرف قدر أنفسنا إلا عند الشدائد", هذه الكلمات المليئة
بالفخر و العواطف نطقت بها ماري أنطوانيت, فأبهرت. إحساسٌ ما أوحى لها أن المعاناة
هي السبيل الوحيد لإبقاء حياتها البائسة مثالا للأجيال القادمة. و بفضل هذا الوعي
بالواجب الأعظم اللازم أداؤه عظُمَت روح ماري أنطوانيت و تعدت حدودها. قبل أن
يتحطم القالبُ الإنساني بقليل, كان القدرُ قد أكمل عملهُ, و في الساعة الأخيرة من
حياتها, نَعم في الساعة الأخيرة, بلغت ماري أنطوانيت, ذات الطبيعة العادية, أعلى
درجات التراجيديا و أصبحت ذاتها في مُستوى قَدَرها.
المرجع: سيرة ماري أنطوانيت للفيلسوف و الأديب النمساوي ستيفان زويغ.
هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس
اتفق معك في كونها امرأة عادية ليست ملاكا لكن ان العذاب والاهانة التي تعرضت لعا قبل موتها بدون مبرر او بسبب بعض المنافقين والخونة جعلها قديسة الفرنسيين في يومنا الحاضر وجعلها تستحق الكتابات عنها
ردحذفماري انطوانيت كانت ضحية النمسا و فرنسا اجمعين مسكينة صاحبة الجلالة انني اتعاطف معها بشدة
ردحذفانا حقا لا ألومها لكنني الوم صغر سنها لا يوجد احد في الكون يستطيع تكوين عائلة من السن الصغيرة التي بداءات السيدة ماري أنطوانيت فيها تولي الحكم خاصة انها أصبحت ملكة دولة بأكملها
ردحذف