الربي الدمشقي يهوشيا بن يوسف بينتو...سليل أسرة دي بينتو De Pinto السفاردية البرتغالية
بقلم هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس.
تُعدُّ
عائلة بينتو Pinto واحدة من العوائل اليهودية الشهيرة و العريقة في المغرب, خصوصا
في مدينة الصويرة "موكادور". و قد عُرفت منذ القديم بإنجاب أحبارٍ
عِظامٍ كانوا منارات هُدى و كان كل واحد من أفرادها قُدوةَ جيله. و لو تصفحنا دفتر
الأجيال لوجدنا أن كل جيل شهد صعود نجم أحد أفرادها حتى صار عالما بالتوراة و
بتعاليم القبالا و بقيت معجزاته و كراماته من بعده تخلب الألباب حتى يومنا هذا.
تعود
جذور عائلة بينتو إلى النبي داوود, و ذلك وِفقَ ما ذكره الربي أبراهام حفوته Rabbi Abraham Hafouta في كتابه "المالُ المختارُ"
Kessef Nev'har الذي أصدره الربي يهوشيا بينتو, و هي تنحدر من البرتغال, و من هناك تفرقت إلى
الشتات في سوريا, تركيا, هولاندا و المغرب. كبير هذه العائلة, الربي يوسف بينتو
كان ضمن اليهود المطرودين من البرتغال عام 1487 و استقر به المُقام في سوريا.
حفيده "الدمشقي" يهوشيا بينتو أصدر كتبا عديدة حول التلمود و الهجادا و
كان حاخام دمشق الأعظم.
وُلِدَ
يهوشيا بن يوسف بينتو في دمشق عام 1565م و توفي بنفس المدينة عام 1648. كان والده
يوسف بينتو من أثرياء المدينة و كبار مُحسنيها. تعلم يهوشيا أصول التوراة و
التلمود و القبالا على يد العديد من الحاخامات, و بعد وفاة والده درس التلمود على
يد يعقوب أبو العافية الذي أجازه حاخاما. زار حلب مرتين, و عام 1625 شد الرحال إلى
صفد بفلسطين قصد الاستقرار بها, لكنه عاد أدراجه إلى دمشق بعد تلقيه نبأ وفاة ابنه
يوسف.
في
مقدمته لكتاب "عين يعقوب", ذكر يهوشيا بينتو أنه رُزِقَ ابناَ حكيما و
عالما, لكن الموت باغته في ريعان شبابه, فاغتم لذلك غما شديدا, و ظل يبكي يوميا
آناء الليل و أطراف النهار. و حتى يتناسى حزنه و لوعة فراقه ابنه, شرع في تأليف
كتابه الأعظم حول التلمود. كان الربي يهوشيا بينتو من كبار الصالحين و ظهرت على
يديه معجزات كثيرة و كان حاخام دمشق الأعظم. كان يتلقى رسائل من جميع أنحاء العالم
و كان يرد عليها جميعا, كل واحدة حسب موضوعها. كان كبار العلماء يهابونه و كانوا
يخصونه بتشريف عظيم.
من
الحكايات الشهيرة التي تُروى عن الربي يهوشيا بينتو, أن رجلا فقيرا في مدينة
القسطنطينية كان يشتغل في المتاجرة بالأقمشة المستعملة و الأغراض القديمة, و كان
يقوم بفرز هذه السلع في منزله و يبيع كل واحدة منها بثمنها. كان هذا مصدر رزقه
الوحيد. ذات يوم اشترى هذا الرجل حزمة كبيرة من الأغراض المكسورة, و هي خليط من
النحاس و الحديد, و أخذها إلى منزله حيث شرع في فرزها. وسط هذه الأغراض عثر على
قطع نحاس صغيرة صدئة, التقطها و رمى بها وسط كومة النحاس المُنتقاة لبيعها. و في
خضم انشغاله بعمله سمع صوتا هامسا يناديه: "لماذا تتركني أسقط؟", فتملكه
الخوف و راح يُقلِّبُ بعينيه جنبات المنزل لعله يقف على مصدر الصوت الغريب. عندما
لم يعثر على شيء, عاد و استأنف عمله. لحظات قصيرة ثم سمع مرة أخرى: "لِما
تتركني مُلقاةً على الأرض؟ أشفق علي". و مرة أخرى راح يجول بناظريه في زوايا
الغرفة لكن لم يقف على المنادي. فعاد و استأنف عمله قبل أن يباغته الصوت للمرة
الثالثة, و هذه المرة بنبرة أعلى: "أشفق علي و سأرد إليك جميلك بأحسن
منه". هذه المرة وقف على مصدر الصوت الذي كان ينبعث من بين كومة النحاس. فراح
يُقلِّبُ بين القطع النحاسية فعثر على قطعة معدنية كانت تناديه و تتوسل إليه, فالتقطها
و وضعها في أعلى مكان خاص فوق صندوق صغير. قالت له القطعة: "بفضلي ستنال
اليوم ضِعف راتبك, و سترى ذلك".
و
فعلا, في ذلك اليوم تحصّل هذا الرجل على دخلٍ مُضاعَفٍ كما وعدت بذلك القطعة. و في
اليوم الموالي قالت له: "من فضلك, نقني من صدئي و ستنال اليوم بفضلي ضعف ما
نلته بالأمس". و هذا ما حصل فعليا...في اليوم الثالث قالت له: "إن
أنصتَّ لفكرتي و وضعتني في صندوق جديد خاص بي ستنال اليوم كيت و كيت...".
الرجل المسكين و قد رأى صدق وعود القطعة, أطاع كلامها و ظل على هذه الحال يلبي
رغباتها و يتضاعف راتبه يوما بعد يوم حتى وصل في تشريفها أن صنع لها صندوقا جديدا
يحتويها و جعل أمامه نورا لا ينطفئ أبدا. تزايد دخل الرجل فصار يقوم بأعمال الخير
و التصدق و الإحسان إلى الفقراء, و أضحت مسألة اغتنائه المفاجئ بعدما كان مُعدماً
موضع تساؤل سكان المدينة. كانت مسألة القطعة النحاسية سرا مكنونا لا تعلمه إلا
زوجته.
هكذا
إذن شيد مدرسة تلمودية كبيرة لأبناء الحاخامات, و كان يقصدها كل الحكماء للنهل من
علومها و أيضا للأكل و الشرب و الحصول على المال الذي يمنحه لهم. كان هذا الحال مع
جميع حاخامات و طلبة المدينة الذين كانت تُوفرُ لهم في المدرسة كل الأمور المادية
للعلم: طاولة, كرسي و إنارة. أما من كان يأتي من خارج المدينة فكان يقيم في
المدرسة, و حين ينوي الرحيل يمنحه الرجل هدية حسب مكانته. كما كان يقدم هبات جزيلة
للكنيس إلى درجة أن الأغنياء و علية القوم شرفوه تشريفا عظيما و كانوا يستحون في
حضوره.
ذات
يوم خرج الربي يهوشيا بينتو كعادته بحثا عن "عبادة غريبة" Avoda Zahra لإتلافها. فقصد مدينة القسطنطينية حيث سمع
بالرجل الذي اغتنى فجأة و الذي أصبح منزله مجمع الحكماء فذهب إلى هناك و استقبله
صاحب الدار استقبالا كريما يليق بمقامه, فقد سبق له أن سمع بكرامات و معجزات الربي
يهوشيا. لما حان وقت الغذاء, نظر الربي يهوشيا بينتو لصاحب الدار بإمعان استشف على
إثرها أنه رجل عادي مطبوع بختم الفقر. هكذا إذن قرر الربي البحث في المسألة للوصول
إلى الحقيقة المخفية. بعد الغذاء, نهض الربي و ولج إلى غرفة مجاورة و نادى صاحب
الدار الذي تبعه, فقال له: "رأيت أعمالك و إحسانك, فحق لك أن تكون سعيدا, لكن
سأسألك سؤالا واحدا و عليك أن تخبرني بالحقيقة. كيف حصَّلتَ كل هذه الثروة؟ لو
نلتها بطريقة شريفة فنحمد الله المُحسن الذي بيده ملكوت كل شيء, يؤتي رزقه من
يشاء. و إياك أن تخفي عن الحقيقة. إذا تعمدتَ إخفاء الحقيقة فالله قادر على كشف
الأمر و لو كرهتَ". هكذا هوَّل الربي عاقبة الكذب حتى أجبر الرجل على البوح
بالحقيقة, فروى له القصة كاملة من البداية إلى النهاية. بعد أن استمع لروايته, قال
له: "هل تؤمن بالله تبارك اسمه؟", "-بكل تأكيد سيدي, أؤمن بالله, و
أحب التوراة التي أدرسها و أعمالي تشهد لصالحي". فرد عليه الربي: "إن
كنت صادقا فيما تقول و تريد تحصيل الثروة من خلال خدمة الله, فأرني تلك
القطعة". هرول الرجل في الحين و جاء بالصندوق الذي قدمه للربي. هذا الأخير
رماه بقوة في الأرض و قال لصاحب الدار: "آتني بمطرقة". لما أتاه بها شرع
في تحطيم الصندوق الذي شرع في الصراخ و لم يزد ذلك الربي إلا عزما على تحطيمه حتى
أرداها حُطاما, فأخذ هذا الحطام و رماه في اليم. و عندما عاد الرجل قال له:
"اعلم أخي أن كل أعمال البر التي قمت بها إلى اليوم هي من العبادات الغريبة
التي وجب علينا تجنبها و عدم الاستفادة منها. إضافة لهذا فالرب لن يحاسبك على ما
سلف, لكن الآن و قد وقفت على التحريم عليك إحراق كل أغراضك و كامل ثروتك. و الله
وكيلك و سيعينك على قضاء حوائجك و سيعينك في كبرك". اقتنع الرجل بكلام الربي
يهوشيا بينتو, فقام بإحراق منزله و ممتلكاته و ملابسه و كل ما يملك, فعاد إلى سابق
عهده فقيرا يمارس مهنته كتاجر خردة. بعد أن أتلف بيديه ثروته التي جناها من
"العبادة الغريبة" وضع ثقته في الله. لما رأى أهل المدينة صنيعه و حكمته
أحبوه و تقربوا منه أكثر و وقفوا بجانبه في بؤسه حتى عاد يجني مالا شريفا حلالا.
هذه
القصة تبين لنا الشأو الذي بلغه الربي يهوشيا بينتو و كيف كان الناس يمتثلون
لكلامه. توفي الربي يهوشيا في آذار مارس 1648 في دمشق و دفن في كنيسها في حي جوبر.
تجذرُ الإشارة إلى أن أصل الاسم العائلي هو "دي بينتو", و هكذا
كان يُكتبُ في هولاندا و تركيا, لكن فرع العائلة الذي ساقه الشتات إلى المغرب الأقصى
و سوريا أزالوا عبارة "دي" من الاسم.
المرجع: histoires sur Rabbi Haim Pinto "La lumière du juste
صلة الرحم بالأندلس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق