الخميس، 31 مارس 2016

مقال "جرمان ضد أمازيغ: 15 قرنا من تاريخ إسبانيا" للإسباني خوثي أنطونيو مؤسس "الفالانخي"




مقال "جرمان ضد أمازيغ: 15 قرنا من تاريخ إسبانيا" للإسباني خوثي أنطونيو مؤسس "الفالانخي"
http://elmunicipio.es/wp-content/uploads/2015/09/jose-antonio-primo-de-rivera.jpg
خوثي أنطونيو بريمو دي ربيرا

خمسة أشهر بعد اعتقاله, و ثلاثة أشهر قبل إعدامه, كتب خوثي أنطونيو بريمو دي ربيرا في محبسه بسجن لقنت Alicanteمقالا حول تاريخ إسبانيا سمَّاه "جرمان ضد أمازيغ: 15 قرناً من تاريخ إسبانيا". في هذا المقال المؤرخ ب 13 غشت 1936, أي 3 أسابيع بعد اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية, حاول مؤسس حزب الكتائب الإسباني "الفالانخي" استقراء مصير إسبانيا من خلال تاريخها, مختصرا كل أحداثها تقريبا في صراع أبدي بين الجرمان و الأمازيغ. هو مقال جدلي لكنه عميق, و يقدم قراءة مختلفة لتاريخ إسبانيا و لأحداثها الكبرى التي غيرت مجرى البشرية. مدونة صلة الرحم بالأندلس " ترجمت المقال, و ستعود لتوسيع النقاش حوله و طرح الانتقادات التي وجهها الإسبان للمقال الذي يُعتبر كنزاً ثمينا بالنظر لكاتبه الذي يُعد واحدا من الساسة و المفكرين الذين تركوا بصمتهم الخالدة في تاريخ إسبانيا.

"جرمان ضد أمازيغ: 15 قرنا من تاريخ إسبانيا."
Germánicos contra beréberes: quince siglos de historia de España

بقلم خوثي أنطونيو بريمو دي ربيرا.

ترجمة هشام زليم
مدونة صلة الرحم بالأندلس.


ما الذي كانت تعنيه حرب الاسترداد La Reconquista؟ هناك معيار سطحي في التاريخ يميل لاعتبار إسبانيا كقَعْرٍ أو كطبقةٍ سُفليةٍ Substratum ثابتةٍ تواكبت عليها العديد من الاجتياحات, و يجعلنا نتابعها كمتضامنين مع هذا العنصر السكاني الأصلي. هيمنة فينيقية, قرطاجية, رومانية, قوطية, أفريقية...لقد استحضرنا ذهنيا منذ طفولتنا كل هذه الهيمنات بصفتنا مفعولا بهم, أي كأفراد من الشعب المغزُوِ. لا أحد بيننا, في طفولته الرومانسية, لم يشعر بأنه وريثُ فرياتوس Viriato, سيرتوريوس Sertorio, و للنومانسيين. كان الغازي دوما عدونا, و المغزو ابن بلدنا.

عندما يُستعرض الأمرُ برويةٍ أكثر و نُضج أكبر يجد المرء نفسه متسائلا أمام هذه المعضلة: هل بالفعل دمائي و أحشائي, و ليس فقط ثقافتي, تحمل أمورا مشتركة مع السيلتي-الإيبيري الأصلي أكثر مما تحمل مع الروماني المُتَحضِّر؟ بمعنى آخر: ألا يُمكن أن يكون من حقي, بحكم الدم, أن أرى الأرض الإسبانية بعين الغازي الروماني؛ أن أعتبر بكل فخر هذه الأرض, ليست كمهد قديم لأجدادي و إنما كأرض ألحقها أجدادي بنمط ثقافة و عيش جديدين؟ من أخبرني أنه خلال حصار نومانسيا كان داخل أسوار المدينة دماء كدمائي و قيم ثقافية كقيمي أكثر مما في معسكرات المُحاصِرين؟
خوثي أنطونيو في سجن لقنت أسابيع قبل إعدامه


لن يفهم هذا الأمرَ جيدا غيرُنا نحن المنحدرون من عائلات وُلِدَ العديدُ من أجيالها في أمريكا الإسبانية. فأجدادنا في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي, مثل أقاربنا الحاليين هناك, يُحسون بأنهم أمريكيون كما نُحسُ نحن بأننا إسبان, لكنهم يعلمون أن صفتهم كأمريكيين اكتسبوها باعتبارهم أحفاد أولئك الذين أعطوا لأمريكا شكلها الحالي. يشعرون بأن أرض أمريكا مِلكيتهم الحميمة لأن أجدادهم ظفروا بها. هؤلاء الأجداد كانوا قد قدِموا من أرض أخرى, هي بالنسبة لأحفادهم غريبة عنهم بشكل أو بآخر. في المقابل الأرض التي يعيشون فوق ترابها اليوم كانت غريبة عنهم قبل قرون, و هي الآن أرضهم التي أُلحقَت نهائيا بالمجال الحيوي لسلالتهم من طرف أجدادٍ قُدامى.


تنبني وجهتا النظر هاتين على طريقتين مختلفتين لفهم الوطن, إما بمنطق الأرض أو بمنطق المصير. بالنسبة للبعض, الوطن هو المكان المادي للمهد, و كل تراث هو تراث مكاني و جغرافي. و بالنسبة للبعض الآخر, الوطن هو التراث المادي لمصير ما, و التراث بهذا المفهوم هو بالدرجة الأولى زمني و تاريخي.

بعد هذه المقدمة المحدِّدة للمفاهيم نعود لطرح السؤال الأولي: ما الذي كانت تعنيه حرب الاسترداد La Reconquista ؟ نعرِفُ مسبقا, و من وجهة النظر الطفولية, أنها هي الاستعادة البطيئة من طرف الإسبان للأرض الإسبانية من يد الموروس الذين كانوا قد غزوها. لكن الأمر لم يكن كذلك. أولا, الموروس (و الصحيح نعتهم "بالموروس" و ليس "العرب", لأن الغالبية العظمى من الغزاة كانوا أمازيغا من شمال إفريقيا, أما العرب, و هم عرق أسمى, فكانوا يشكلون أقلية مُسَيِّرَةً) احتلوا تقريبا كل شبه الجزيرة الإيبيرية في وقت وجيز مقارنة بالوقت اللازم لاحتلال مادي, و دون قتال. منذ معركة وادي لُكة (711م) و إلى معركة كوفادونغا (718م), لم يُحدثنا التاريخ عن أي معركة بين الغرباء و السكان الأصليين. حتى مملكة تودمير بمرسية فقد تشكلت بفضل توافقات حَسنةٍ مع الموروس. كل إسبانيا على شساعتها احتُلَّت بسلمية. إسبانيا طبعا مع الإسبان الذين كانوا يعيشون فيها. أما أولئك الذين انسحبوا إلى أشتورياس فكانوا الناجين من بين الوجهاء و العسكريين القوط, بمعنى آخر, أولئك الذين كانوا يُعتبرون بدورهم غزاةً قبل 3 قرون. العمق الشعبي الأصلي (السلتي-الإيبيري, السامي في مجمله من جهة, المتماهي مع الشمال إفريقي من جهة أخرى, و المُتَرومِنُ بشكل أو بآخر) كان بعيدا عن القوط بنفس درجة البعد عن الهاجريين Agarenos (الإسماعيليين  أو أبناء هاجر ) الواصلين حديثا. بل إنه كان يستحضرُ عوامل إثنية و عُرفية متعاطفة مع جيران الضفة الأخرى من المضيق أكثر من تلك مع أولئك الشُقر الدانوبيين الذي ظهروا قبل 3 قرون. أغلب الظن أن الجماهير الشعبية الإسبانية كانت تشعر بالارتياح تحت حكم الموروس  أكثر من وجودها تحت هيمنة الجرمان. كان هذا في بداية حرب الاسترداد La Reconquista, أما في أواخرها فحَدِّث و لا حرج. فبعد 600, 700 (و في بعض المناطق) 800 سنة من التعايش, كان اندماج الدم و العادات بين السكان الأصليين و الأمازيغ أمرا لا نقاش فيه, بينما التمازج بين السكان الأصليين و القوط لم يعدو أن يكون سطحيا حيث أعاقته, طيلة 200 سنة, الازدواجية القانونية, كما كان دوما مرفوضا في العمق نظراً للمفهوم العرقى لدى الجرمان.

حرب الاسترداد إذن ليست عملاً إسبانياً شعبياً ضد غزو أجنبي, بل هي حقيقةً احتلال جرماني جديد, إنه صراعُ قرونٍ طويلةٍ من أجل السلطة العسكرية و السياسية بين أقلية سامية من عرق رفيع - العرب- و أقلية آرية من عرق رفيع - القوط-. في هذا الصراع, لعب الأمازيغُ و السكانُ الأصليون دور جنود تارةً, و تارةً أخرى دور رعايا مذعنين لهذا الطرف أو ذاك من المُهيمنين, مع ربما, تفضيل ملحوظ, على الأقل في غالب المناطق, للسراسنيين (الموروس).


حرب الاسترداد هي, إلى هذا الحد, عبارة عن حربٍ بين أطراف و ليست حرب استقلال, و لم يحصل خلالها أن نوديَ "بالإسبان" أولئك الذين كانوا يحاربون ضد الهاجريين, و إنما كانوا يُنعتون "بالنصارى" في مواجهة "الموروس". كانت حرب الاسترداد نزاعا عسكريا من أجل السلطة السياسية و العسكرية بين شعبين مُهيمِنَين, نزاعٌ كان محور استقطابه صراعاً دينياً.

كان جميعُ القادة الرَّفيعي المستوى في الطرف النصراني ينحدرون من دم قوطي. لقد بُويِعَ بيلايو في كوفادونغا باعتباره مُتَمِّماً للمَلَكية المَدفونة في وادي لُكة. كما كان لقادة النويات النصرانية الأولى مُسحَةً لا تُخطئها العين لأمراءٍ جرمانوي الدم و العقلية. أكثر من ذلك, كانوا يشعرون منذ البداية بارتباط مع الطائفة الكبرى  الكاثوليكية-الجرمانية الأوربية. عندما تطلَّعَ ألفونسو العالِم للعرش الإمبراطوري لم يتبنى موقفا شاذّاً: لقد ترافع, مُستعينا بورقة النضج السياسي لمملكته, عمَّا كان يُحَمِّسُ منذ قرونٍ ضميرَ أي أميرٍ نصرانيٍ-جرمانيٍ داخل كل زعيم للدول المشاركة في حرب الاسترداد. حرب الاسترداد هي عمل أوربي - أي في هذه الحالة جرماني-. في حالات عديدة شارك زعماءٌ أحرارٌ من فرنسا و ألمانيا فعلياً في القتال ضد الموروس. الممالك التي تشكلت لها أساس جرماني لا سبيل لنفيه. و لعلّه لم تكن بين دول أوربا مَن أجادت التطبع بالختم الأوربي للجرمانية كما أجادت كوندية برشلونة و مملكة ليون.

باختصار - و بِغَضِّ النظر عن التناقلات و التأثيرات العديدة المتبادلة بين جميع العناصر الإثنية خلال ثمانمائة عام- المَلَكية الظافرة للملوك الكاثوليك هي تجديد للملكية القوطية-الإسبانية, الكاثوليكية, الأوربية, التي فقدت عرشها في القرن الثامن. كانت العقلية الشعبية تُميزُ بصعوبة بين الأمة و المَلِك. من جهة أخرى, مناطق شاسعة من إسبانيا, خاصة في أشتورياس, ليون و شمال قشتالة تمت جرمنتها دون توقف طيلة ألف سنة (من بداية القرن الخامس و إلى نهاية القرن الخامس عشر, دون انقطاع إلا ما كان بين معركة وادي لكة و سيطرة الزعماء القوط النصارى على الأراضي الشمالية). هذا بالإضافة إلى أن التشابه الإثني مع شمال إفريقيا كان أقل بكثير من تشابه هؤلاء مع سكان الجنوب و الشرق. هكذا إذن تتجسد الوحدة القومية تحت حكم الملوك الكاثوليك في تشييد الدولة الإسبانية المُوَحَّدة ذات الصبغة الأوربية, الكاثوليكية, الجرمانية, و هذا تتويج لكل حرب الاسترداد. كما أنه تتويج للجرمنة الاجتماعية و الاقتصادية لإسبانيا, و هذا أمر لا يجب إغفاله, فمن خلاله سيجد "الثابت الأمازيغي" أول فجوة من أجل التمرد.


في حقيقة الأمر, كانت نوعية الهيمنة العربية سياسيةً و عسكريةً في المقام الأول. لقد كان للعرب تفسير فضفاض للمناطقية. لم يكونوا يتمَلَكون الأراضي بالمفهوم الحَرفي للمِلكية القانونية الخاصة. فالساكنة الفلاحية بالمناطق التي كان يُسيطر عليها العرب بشكل واسع (أندلوسيا و الشرق Levante) ظلت حرة في استغلال أرضها على شكل ملكيات صغيرة و أحيانا ملكيات جماعية. بالتالي العنصر الأصلي-الأندلسي, النصف أمازيغي, و الساكنة الأمازيغية التي غذت بغزارة الطوابير العربية, كانت  تَنعَمُ بسِلمٍ أساسي و حُر, صحيح أنه لا يتماشى و المشاريع الزراعية الصخمة, لكنه جذاب لشعب خاملٍ, واسع الخيالِ, سوداوي  كالشعب الأندلسي. في المقابل, كان النصارى, الجرمان, يحملون في دمائهم الحس الفيودالي للمِلكية. عندما كانوا يستولون على الأراضي كانوا يُولون عليها أسيادا, ليس أبدا بالمفاهيم السياسية-العسكرية الصِرفة كالعرب, و إنما بالمفاهيم التملكية و السياسية أيضا. كان الفلاح يتحول في أحسن الأحوال إلى تابعٍ؛ و بمرور الوقت و أمام تقلص الجانب القضائي و السياسي, شدَّد الأسياد على الطابع التملُكي, فاجتُثَ الأتباع كليا من جذورهم و انحدروا إلى خانة المياومين Jornaleros الرهيبة.

كان التنظيم الجرماني, ذو الصبغة الأرستقراطية التراتبية, في أساسه قاسيا للغاية. و لتأكيد هذه القسوة أخذ على عاتقه  القيام بإنجاز تاريخي عظيم ما. كان هذا الإنجاز فعليا هو السيطرة السياسية و الاقتصادية على شعب يكاد يكون بدائيا. كل هذا الدرع الضخم المُكوَّن من المَلَكية, الكنيسة و الأرستقراطية, كان يسعى لتبرير امتيازاته الهائلة بكونه مُنجزاً لمُهمة عظمى في التاريخ. و قد حاول ذلك من خلال طريقين اثنين: فتح أمريكا و الإصلاح المضاد.


من الشائع القول بأن فتح أمريكا هو نِتاجُ العفوية الشعبية الإسبانية و جرى تقريبا رغم أنف إسبانيا الرسمية (و هو قول أطلقه الأدب الامازيغي الذي سنتحدث عنه فيما بعد). لا يُمكن جدياً إسناد هذه النظرية. ما من شك أن العديد من الرحلات الاستكشافية نُظِمت بمبادرات خاصة, لكن روح التنصير و الاستيطان بأمريكا موجود في نصوص "قوانين الهنديات" التي تحوي فكرا ثابتا للدولة الإسبانية رغم تقلبات القرون. كما إن فتح أمريكا هي نظرية كاثوليكية جرمانية, و تحمل روحا كونية لا تنبع جذورها أبدا من أصول سلتية-إيبيرية أو أمازيغية. وحدها روما و النصرانية الجرمانية كانتا قادرتان على نقل الصيت التوسعي و الكاثوليكي لفتح أمريكا إلى إسبانيا. بالنسبة لما يطلق عليه حس المغامرة الإسباني, هل هو فعلياً إسباني بالمعنى المحلي أو الأمازيغي أم هو واحد من علامات الدم الجرماني؟ لا ينبغي أن نُهملَ أمرا مهما: حتى أيامنا هذه, المناطق التي يخرج منها أكبر عدد من المهاجرين, أي المغامرين, هي مناطق الشمال, الأكثر جرمنة, الأكثر أوربية, المناطق التي, من وجهة نظر سُلالية و تصويرية, يمكن اعتبارها أقل إسبانيةً. في المقابل, ما يزال كبيرا للغاية عدد أهل أندلوسيا و شرق الأندلسLevante الذين يستقرون في المغرب الأقصى, وهران و الجزائر, و يعيشون هناك تماما كأنهم في ديارهم, و كأنهم جذر شجرة يعرف الأرض البعيدة التي اجتُث منها أسلافه. هذا الجنوح الجنوبي و الشرقي نحو إفريقيا لا يتوفر على أدنى تجانس مع الإرساليات الاستيطانية نحو أمريكا. كما أن إفريقيا و أمريكا كانتا على الدوام محطات شحن لطرفَيْن سياسيَيْن و أدبِيَيْن إسبانيَيْن. طرفان يتصادفان تقريبا, تماما و دوما, مع الليبرالي و المحافظ, الشعبي و الأرستقراطي, الأمازيغي و الجرماني. كان أمرا شبه قَدريٍ أن يتفوه كاتبٌ مُعادٍ للأرستقراطية, مُعادٍ للإكليروسية, مُعادٍ للمَلكية, بجملة كهذه: "كان حَريا بالمَلَكية الإسبانية, بدل أن تُضعِفَ إسبانيا في مغامرة أمريكا, أن تبحث عن امتدادنا الطبيعي, الذي هو إفريقيا".

بالموازاة مع فتح أمريكا, خاضت إسبانيا الجرمانية (الآن جرمانية من ناحيتين تحت حكم سلالة هابسبورغ ) الصراع الكاثوليكي في أوربا من أجل الوحدة. خاضته, و في النهاية خسرته. و كنتيجة لذلك, خسرت أمريكا. كان التبرير الأخلاقي و التاريخي للسيطرة على أمريكا يكمن في فكرة الوحدة الدينية للعالم. كانت الكاثوليكية هي تبرير سلطة إسبانيا. لكن الكاثوليكية كانت قد خسرت الرهان. بهزيمة الكاثوليكية, و جدت إسبانيا نفسها بلا شهادة تتذرع بها للسيادة على الغرب. كان تبرير اعتمادها قد انتهت صلاحيته. و هذا ما لاحظه الداهية ريشليو, الذي لم يتردد في تقديم يد العون للمدافعين عن الإصلاح بُغية تحطيم آل أشتورياس. كان يعلم جيدا أن حجر الزاوية في أسرة هابسبورغ كان الوحدة الكاثوليكية للنصرانية. 

هكذا إذن خُسرَ الرهان في أوربا أولا, ثم بعده في أمريكا, فأي مهمة ذات قيمة كونية ستتذرع بها إسبانيا المُهيمِنة –المُشكَّلة من المَلكية, الكنيسة و الأرستقراطية - للحفاظ على وضعها الامتيازي؟ في غياب تبرير تاريخي, تلاشى أيُّ دورٍ ريادي, و أضحت امتيازاتها الاقتصادية و السياسية في وضع انتهاك صريح. من جهة أخرى, و في غياب أية وظيفة, فقدت الطبقات المُوجِهة حيويتها, حتى في وضع الدفاع عن النفس. مجموعة من الظواهر المُشابهة إلى حد كبير يُمكن ملاحظتها عند تقهقر المَلكية القوطية. و في خضم كل هذا, القوة الكامنة, التي لم تُخمد أبدا, للشعب الأمازيغي الخاضع, شرعت علانيةً في الأخذ بالثأر.


حتى في أوج مراحل الهيمنة, لم يغب "الثابت الأمازيغي" عن الوجود و لم يتوقف عن العمل. الشعوب المتراكمة بعضها فوق بعض, المُهَيمِنة و المُهيمَن عليها, الجرمان و الأصلي الأمازيغي, لم تكن قد انصهرت فيما بينها؛ كما أنها لم تتفاهم فيما بينها. كان الشعب المهيمِنُ يحرص على عدم التمازج مع الشعب المُهيمَن عليه (حتى عام 1756 لم يتم إبطال مرسوم كانت قد أصدرته إيزابيلا الكاثوليكية و يُلزم بالتحقق من نقاء الدم, أي توفر شرط النصراني القديم الذي لم يختلط دمه بدم يهودي أو مسلم, و ذلك لتقلد حتى أدنى وظائف السلطة). و بين هذا و ذاك, الشعب المُهيمَنُ عليه يكره الشعب المُهيمِن. و في تحول نوعي للغاية, تبنى في مواجهة المُهيمِنين مظهر خضوعٍ ساخرٍ, وصل في أندلوسيا إلى أقصى درجات المبالغة في التزلُّف, لكن خلف هذا التزلُّف الظاهر تأتي أكثر السخريات احتقارا نحو المُتزلَّف له. هذا الأسلوب, السُخرية, هو أكثر إذعانٍ هادئٍ يتبناه الشعب المسلوب. و يظهر مما ذُكِرَ أعلاه البُغضُ, و تحديدا, التأكيدُ الدائم على الانفصال. في إسبانيا, تختزن عبارة "الشعب" دوما حمولة خصوصيةً و عدائيةً. كان الشعب العبري يضم الأنبياء طبعا. و الشعب الانجليزي يضم اللوردات؛ أما هنا فلا: عندما يُقال "الشعب" فهو يراد به اللاَّمُميَّز, الغير مُؤهَّل, من لا ينتمي لا للطبقة الأرستقراطية, و لا للطبقة الكنسية و لا للطبقة العسكرية, و لا إلى أي طبقة كانت. الدون مانويل آزانيا نفسه قال: "لا أثق في المفكرين, و لا في العسكريين, و لا في الساسة, لا أثق إلا في الشعب". لكن, ألا يُشكلُ المفكرون, العسكر, الساسة, كما رجال الكنيسة و الأرستقراطيون جزءا من الشعب؟ في إسبانيا, لا, لأنه يوجد شعبان, و عندما يُذكرُ "الشعب" دون تخصيص فإنه يُقصَدُ به الشعب الخاضع, المنزوع من وجوده البدائي الذي يحن له دوما و أبدا, وجوده اللامُمَيَّز, المُعادي للتراتبية, و المُبغِض بالتالي بشدة لكل تراتبية, التي تُعتبرُ من سمات الشعب المُهَيمِن.

هذه الثنائية نفِذت إلى جميع مظاهر الحياة الإسبانية, حتى تلك التي في ظاهرها أقل شعبيةً. على سبيل المثال, كانت للظاهرة الأوربية للإصلاح نسخة مقلَّصة في إسبانيا, لكنها مختومة بختم الصراع بين الجرمان و الأمازيغ, بين المُهيمِنين و المُهيمَن عليهم. لم تَشهد إسبانيا أية حالة لأميرٍ مُهرطِق, كما حصل في فرنسا و ألمانيا. لقد ظل كبار السادة متمسكين بدين سلالتهم. كل مهرطق, بورجوازيا صغيرا كان أو متعلما, كان بمثابة آخذ بثأر المقهورين. كانت تَحُثُهم, خلال انشقاقهم, كراهيةٌ عُضالٌ للجهاز الرسمي المُشَكَّل من المَلكية, الكنيسة و الأرستقراطية – أكثر من تأثرهم بأي عاملٍ لاهوتي. 

و هكذا دواليك حتى يومنا هذا. الخط الأمازيغي الذي يَبرُزُ كلما لمح اضمحلال القوة المضادة, يظهر جليا في كل الحركة الفكرية اليسارية, من لارا إلى يومنا هذا. لم ينجح الوفاء للأساليب الأجنبية في إخفاء شيءٍ من شعور المهزومين في كل الإنتاج الأدبي الإسباني خلال المائة سنة الأخيرة. تَجِدُ لدى كل كاتب يساري رغبة فظيعة للهدم, رغبة عنيدة و مزعجة لا يمكن أن تنبع إلا من عداوة شخصية لدى سلالة مُهانة. المَلكية, الكنيسة, الأرستوقراطية, الطبقة العسكرية, هي مؤسسات تثير غضب مفكري اليسار. ليس لأنهم عرضوا على محك النقد هذه المؤسسات, و إنما لأنه في حضرتها يجتاحهم اضطراب سلالي كالذي يجتاح الغجر عند احتقارهم. هذان التأثيران هما في العمق مظهران لنفس النداء القديم للدم الأمازيغي. ما يبغضونه, دون أن يعلموا, ليس فشل المؤسسات التي يذمونها, و إنما نصرها القديم, نصرها عليهم, أي على الذين يكرهونها. إنهم الأمازيغ المنهزمون الذين لا يغفرون للمنتصرين -الكاثوليك, الجرمان- كونهم كانوا حملة رسالة أوربا.

هذا الحقدُ أصاب بالعُقم كل إمكانية للثقافة. الطبقات المُوجِهة لم تُقدم شيئا يُذكرُ للثقافة التي لم تكن في أي حال من الأحوال مهمتها الخاصة. أما الطبقات الخاضعة, فحتى تُنتج شيئا ذا قيمة من وجهة نظر ثقافية, كان عليها أولا القبول بإطار القيم الأوربية, الجرمانية, السائدة؛ الأمر الذي كان يُولد عندها نفورا لا حدود له كونه ينحدر في العمق من لدُن المُهَيمِنين الممقوتين. 

هكذا باختصار, يمكن القول بأن إسهام إسبانيا في الثقافة المعاصرة يساوي صفراً. باستثناء بعض الجهد الفردي الضخم, المعزول عن كل المدرسة, إضافة لزُمرة منتمية للهالة الخارجية.

بعد المناوشات كان لابد و أن تأتي المعركة. و قد أتت : إنها جمهورية عام 1931, و ستكون بصورة خاصة, جمهورية 1936. هذه التواريخ, و خاصة التاريخ الثاني, يشكلان هدمَ الجهاز المَلكي, الديني, الأرستقراطي و العسكري, و الذي لازال, رغم أنه أطلال, يؤكِّدُ على أوربية إسبانيا. ما من شك أن الماكينة كانت معطلة, لكن الأخطر هو  أن تدميرها يعني الثأر من حرب الاسترداد, أي حصول غزوٍ أمازيغيٍ جديدٍ. سنعود لنكون "اللامُميَّز". ربما سيتم تحصيل نوع من الهدوء الأساسي من خلال تحسين الظروف المعيشية للطبقة الشعبية. ربما الفلاح الأندلسي, الغارق في الحزن و الحنين, سيستأنف حديثه الصامت مع الأرض التي سُلبت منه. إذا ما تحقق هذا, فنصف إسبانيا تقريبا ستشعر أنها مُعبَّرٌ عنها بصورة مثالية. لكن الأسوأ أن شعبا واحدا, مُهيمِنٌ و مُهيمنٌ عليه, سيكون في كتلة واحدة, شعب دون أدنى قابلية للثقافة الكونية. هذه القابلية كانت للعرب, لكنهم كانوا طبقةً مُوجِهةً قليلة العدد, ذابت في العمق البشري المتبقي. الجماهير التي ستنتصر الآن, ليست عربية و إنما أمازيغية. و الذي سيخسر هو البقية الباقية من الجرمانية التي كانت ما تزال تربطنا بأوربا.

ربما ستتمزق إسبانيا إلى قطع انطلاقا من حدودٍ ستَرسُم داخل شبه الجزيرة الحدود الحقيقية لأفريقيا. ربما كل إسبانيا ستُصبحُ إفريقيةً. ما لاشك فيه أن إسبانيا لن تُعَدَّ جزءا من أوربا طيلة فترة طويلة. و حينها, نحن الذين نشعر بالارتباط بالمصير الأوربي من منطلق التضامن الثقافي و رابطة الدم الغامضة, هل سنستطيع تبديل قوميتنا السلالية التي تُحب هذه الأرض لأن أجدادنا نالوها لمنحها شكلا آخر, بقوميةٍ أرضيةٍ تحب هذه الأرض لذاتها, رغم أن في أرجائها كان قد أُخرسَ آخر صدى لمصيرنا العائلي.

13 غشت 1936.

صلة الرحم بالأندلس.

هناك 7 تعليقات:

  1. موضوع اكثر من رائع

    ردحذف
  2. حقيقة ثابتة ونفس الأمر يقال على شعوب وجغرافية شمال افريقيا

    ردحذف
  3. مقال ركيك و ضعيف المصدر و يركز علي الشعوبية...انها طريقة المستعمر في غرس الفرقة بين ابناء الشعب الواحد

    ردحذف
  4. الترجمة جريئة وحرفية (بالنص) وربما النص الاصلي واضح جدا للناطقين بالاسبانية (اللغة الام)، اما بالنسبة للناطقين بالعربية احسب انني غريب عن النص (رغم انة مترجم بالعربية)، ممكن اضافة شرح اكثر يخدم فهم قصد الكاتب حوسية انطونيو ريبيرا للناطقين بالعربية. وشكراً

    ردحذف
    الردود
    1. افي اللغة الإسبانية لا يقلون العرب بالمورو و تعني المغربي أعنقد أن الترجم فيه بعض الأخطاء

      حذف
    2. في اللغة الإسبانية لا يقلون العرب بل يقولون المورو و تعني المغربي أعتبد أن الترجم فيها بعض الأخطاء

      حذف