الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

"ماري أنطوانيت, ذئبة نمساوية أم ضحية الملكية و الجمهورية؟". الجزء الثاني: مشروع زواج سياسي


"ماري أنطوانيت, ذئبة نمساوية أم ضحية الملكية و الجمهورية؟". الجزء الثاني: مشروع زواج سياسي.

ترجمة: هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس.

المرجع: سيرة ماري أنطوانيت للفيلسوف و الأديب النمساوي ستيفان زويغ.

صورة لماري أنطوانيت رسمها عام 1769 الرسام الفرنسي جوزيف ديكرو لولي عهد فرنسا حتى يتعرف على خطيبته.

على مدى قرون طويلة, و في ساحات حروب ألمانية, إيطالية و فلامندية لا تُحصى, تصارع آل هابسبورغ النمساويون و آل بوربون الفرنسيون حد الاستنزاف للسيطرة على أوربا. في نهاية المطاف, انتهى الغريمان الأزليان إلى الاعتراف بأن عداوتهما المُستعِرة مهَّدت الطريق لعائلات حاكمة أخرى لفرض وجودها في أوربا و العالم: فها هو الشعب المهرطق للجزيرة الانجليزية يمد يداه نحو امبراطورية العالم, و ها هي النواة البروتستانتية لبراندنبورغ الألمانية أصبحت مملكة قوية, بينما روسيا التي نصف سكانها مازالوا غارقين في الوثنية فتستعد لتوسيع نفوذها نحو ما لانهاية؛ أو ليس الأجدى بهما في هذه الظروف عقد السلام بدل التجديد المتكرر للعبة الحرب الخطِرة التي لا تصب إلا في صالح المُتربصين و الطارئين؟ كان هذا هو التساؤل الذي طرحه الملوك و ديبلوماسيوهم. و في هذا الإطار عقد شوازل, وزير الملك الفرنسي لويس الخامس عشر, و كونيتز, مستشار امبراطورة النمسا ماري تريز, تحالفا استراتيجيا بين فرنسا و النمسا عام 1756. و لضمان استمراريته و دوامه, و ألا يكون مجرد هدنة بين حربين, اقترح الرجلان وصل آل بوربون بآل هابسبورغ عبر روابط الدم المتينة. 


لم تكن سلالة هابسبورغ تَفتقر أبدا لأميرات للزواج خصوصا في هذه الفترة حيث كن كثيرات و من مختلف الأعمار. في البداية, تم اقتراح زواج الملك الفرنسي لويس الخامس عشر, رغم تقدمه في السن و أخلاقه المريبة, بأميرة هابسبورغية. لكن لويس الخامس عشر لم يبدي اهتماما حيث كان قد انتقل لتوه من فراش عشيقته المتوفاة مادام بومبادور إلى فراش عشيقته الجديدة مادام دو باري. أما الأمير النمساوي جوزيف الثاني, أكبر أبناء ماري تريز و المُترمل مرتين, فلم يُبدي رغبة في الاقتران بإحدى بنات لويس الخامس عشر الثلاث و اللواتي لم يكن كلهن صغيرات. فلم يبق بالتالي إلا خيار واحد - و هو الخيار الطبيعي حقيقة- و يتمثل في زواج ولي العهد حفيد لويس الخامس عشر و ملك فرنسا المُقبل بإحدى بنات الملكة النمساوية ماري تريز.


كان سن ماري تريز, صُغرى بنات امبراطورة النمسا, 11 عاما في سنة 1766, و كانت رغم صغر سنها محور مشروع هذا الزواج السياسي. في الرابع و العشرين من ماي من هذه السنة, بعث سفير النمسا في فرنسا برقية إلى الامبراطورة ماري تريز يخبرها من خلالها بأن الملك الفرنسي وافق على مشروع زواج ولي العهد الفرنسي من ابنتها ماري أنطوانيت. لكن الديبلوماسيين لن يكونوا ديبلوماسيين إذا لم يضيفوا لمستهم العجيبة التي تُعقد أبسط الأمور, إضافة لأن بعض إشكاليات البلاط طفت على السطح من الجانبين و تسببت في تأخير إتمام الزواج. هكذا مرت السنة الأولى, فالثانية ثم الثالثة دون جديد يُذكر. و بمرور الوقت أصبحت ماري تريز الحذِرة, و معها كل الحق في الحذر, تخشى أن يقوم جارها المزعج, فردريك البروسي, أو الوحش كما كانت تنعته, بعرقلة هذا المخطط المصيري لقوة النمسا, فوضعت كل خبرتها و دهائها للحيلولة دون عودة بلاط فرنسا عن الوعد الذي قدمه. هكذا قامت ماري تريز طيلة هذه الفترة بالترويج لميزات الأميرة ماري أنطوانيت لدى البلاط الباريسي و أغرقت مسامع السفراء بالحديث عن لياقة و كياسة الأميرة الصغيرة راجية بذلك أن يأتوها من باريس بطلب زواج نهائي. 

كانت ماري تريز امبراطورة أكثر منها أٌماً, و كانت تُفكر في تعزيز قوة امبراطوريتها أكثر من التفكير في سعادة ابنتها. و حتى عندما أخبرها أحد السفراء بأن الطبيعة أبت أن تمنح زوج ابنتها المستقبلي ولي عهد فرنسا أدنى ميزة و أنه يكشفُ من خلال حمولته الفكرية و آرائه عن برودة في الإحساس و تبلد للمشاعر و نوع من الخيبة, لم تُعر النصيحة اهتماما, و رجحت مصلحة بلدها على مصلحة ابنتها و كان لسان حالها يقول : "هل الأميرة في حاجة لتكون سعيدة إذا كانت ستُصبحُ ملكة؟".

كان كلما ازداد إصرار ماري تريز على نيل التزام مكتوب و رسمي من لويس الخامس عشر كلما تمادى هذا الأخير في التريث و التماطل. ظل طيلة 3 سنوات يتلقى صورا و تقاريرا عن ماري أنطوانيت, و يكتفي بالإعلان المرة تلو الأخرى عن موافقته المبدئية لمشروع الزواج من دون الالتزام بأي شيء أو إرسال الطلب المنتظر.

الصغيرة ماري أنطوانيت, العربون البريء لهذه الصفقة السياسية المهمة بين فرنسا و النمسا, لم تتجاوز بعد عامها الحادي عشر. هي طفلة رقيقة, لطيفة, ممشوقة القوام و بارعة الجمال. كانت, في خضم المفاوضات و النقاشات حول مستقبلها, تلهو و تمرح في صالات و حدائق قصر شونبرون بفيينا رفقة أشقائها و شقيقاتها و أصدقائها. لم تكن تولي اهتماما للدراسة و التعلم و المطالعة و كانت تتلافى ملاقاة المُدرسين الذين انتُدبوا لتدريسها و كانت تغيب عن حضور الحصص الدراسية. 

ماري تريز التي ألهتها مشاغل و هموم الامبراطورية عن الاهتمام الجدي بتربية و تعليم أبنائها, اكتشفت ذات يوم أمرا ارتاع له قلبها: ابنتها ماري أنطوانيت,ملكة فرنسا المُقبلة, في سن الثالثة عشر لا تُحسنُ الكتابة لا بالفرنسية و لا بالألمانية, و معلوماتها في مجال التاريخ ضحلة للغاية, أما ثقافتها العامة فحدث و لا حرج. كما أنها لا تُحسنُ الموسيقى رغم أن معلمها هو الموسيقار كريستوف فليبالد غلوك نفسه. هكذا وجدت ماري تريز نفسها أمام ضرورة إعادة تكوين ابنتها في وقت قياسي و أن تجعل من هذه الفتاة اللعوب و الخاملة فكريا شخصية مثقفة. كانت الأولوية تَكمُنُ بالنسبة لملكة فرنسا المُقبلة في تعلم الرقص بشكل لائق و التحدث بالفرنسية بلكنة جيدة. لهذا الغرض استقدمت ماري تريز على وجه السرعة أكبر معلم للرقص آنذاك, الفرنسي جون جورج نوفير, كما استقدمت مُمثلين مسرحيين فرنسيين كانا في جولة فنية في فيينا, أحدهم لتعليم الأميرة نُطق الفرنسية, و الآخر لتعليمها الغناء. غير أن ملك فرنسا اعترض على تعيين ممثلين كمعلمين لملكة فرنسا المُقبلة. فبوشرت في الحين مفاوضات ديبلوماسية جديدة لمناقشة هذه المسألة, حيث كان بلاط فرنسا يعتبر مسألة تربية و تعليم خطيبة ولي عهد فرنسا مسألة تعنيه هو أيضا. هكذا بعث الفرنسيون إلى بلاط فيينا القس ماتيو جاك فرموند بتوصية من أسقف أورلينز لتعليم الأميرة أنطوانيت. من خلال برقيات هذا القس إلى بلاط باريس سنتعرف بعمق على شخصية الأميرة في سن الثالثة عشر. في برقياته الأولى أثنى القس على جمال الأميرة و طيبة طبعها و قلبها و رأى أنها تتوفر على كل مقومات الأميرة التي يتوخاها البلاط الفرنسي. 


غير أن القس فرموند كان حذرا في تقييمه للمدارك الحقيقية لتلميذته و انكبابها على طلب المعرفة, حيث اعتبرها لعوبا, غير منتبهة, طائشة و مُتقدة. رغم قدرتها الكبيرة على الاستيعاب و الفهم, لا تبدي أدنى رغبة في الاهتمام بموضوع جدي. مع ذلك اعترف لها القس برجاحة العقل رغم أن الكثيرين يعتقدون العكس, لكن عقلها للأسف لم يعتد على الجهد و العمل. قليل من الكسل و كثير من الخفة جعلا مهمة القس في تعليمها شاقة للغاية. شرع في تعليمها بعض مبادئ الأدب, لكنه كان عاجزا على تعويدها على التعمق في موضوع ما رغم إحساسه بقدرتها على ذلك, واستنتج أنه لا يُمكنُ تحفيز عقلها للعمل إلا من خلال تسليته.

بنفس العبارات تقريبا, سيتذمر بعد 20 عاما كل رجالات الدولة الفرنسية من خمول فكر الملكة ماري أنطوانيت رغم ذكائها الكبير, من هروبها أمام كل نقاش جدي خشية الوقوع في الملل. في سن الثالثة عشر ظهر جليا عيب طبيعة هذه المرأة القادرة على كل شيء و غير الراغبة في أي شيء. لكن منذ سيادة حكم العشيقات في بلاط فرنسا, أصبح مظهر المرأة أولى من قيمتها الحقيقية, و ماري أنطوانيت كانت حسناء, رائعة الهيئة و حسنة الطبع...و كان هذا كافيا.

المرجع: سيرة ماري أنطوانيت للفيلسوف و الأديب النمساوي ستيفان زويغ.

"ماري أنطوانيت, ذئبة نمساوية أم ضحية الملكية و الجمهورية؟". الجزء الأول: نظرة فلسفية.
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق