مقال "من لغو الصيف" لأحمد بناني. على هامش مقال "شباب غفل"
مدونة صلة الرحم بالأندلس.
من مجلة الثقافة المغربية.
العدد 13. 23 جمادى الأولى عام 1357 - موافق 21 يوليوز 1938.
كانت الليلة ليلة صيف حارة, هجر فيها النوم مقلتي, ففتحت نوافذ غرفتي, و اضطجعتُ مستريحا على مقعد طويل بين رفوف كتبي أطالع بل أتصفح مجلات على ضوء ضئيل لأقتل الوقت منتظرا هبوب نسيم الهزيع الأخير من الليل, و أخيرا ثرت بين حالة النائم و اليقظ, أنتبه تارة و تارة تأخذني سنة خفيفة, فأهيم في عالم الأحلام اللذيذة. و بينما أنا في هذا السكون العميق إذ نفذ إلى أذني حفيف أوراق, فظننتُ أنه فأر جاء زائرا خزانتي في هذه الليلة, فلم أُعر له بالا, و لكن ىسرعان ما تعاظم الأمرُ, و ارتجت الرفوف, و انهارت الكتب على الأرض, و صارت تقفز و تطير و تتصادمُ, فدخلني رعب عظيم, ثم تضاعف ذهولي و كدتُ أفقد شعوري لما سمعتُ أصواتا ترتفع من طيات الكتب: "صاحبي...نعم...صاحبي أحسن من صاحبك...الرافعي...العقاد..." و لولا هذه الأصوات السحرية الموسيقية و هذا الحوار اللطيف و هذا الجدال الأدبي الممتع لخرجتُ فارّا, و لصرتُ أضيح مستغيثا, لكنني استجمعتُ قواي, و أمعنتُ النظر, فإذا بالثورة القائمة هي بين كتب العقاد و الرافعي و أعداد أخيرة من "الرسالة" بها مقالات لأنصارهما و خصومهما؛ ثم صار الضجيج يكثر, و الملاكمة تشتد, و إذا برأس ضخم يخرج من كتاب "في الأدب الجاهلي" يصيح قائلا: "يمكن أن يكون الرافعي أحسن من العقاد, و يستطيع العقاد أن يكون أحسن من الرافعي, و ليس الرافعي أحسن من العقاد, و لا العقاد أحسن من الرافعي, على أننا نستطيع أن نتساءل هل هناك عقاد و هل هناك رافعي, و نستطيع أن نتساءل هل هذه الكتب التي ننسبها لهما هي صكك ثابتة, أم هي كالمعلقات منحولة...".
ثم أطلت رؤوس أخرى من كتب أخرى تحتج و تدافع و تناضل, و توازن و تُفاضل, و إذا بكتاب "النثر الفني" يضرب صفوف الكتب و يتقدم و يخرج صاحبه منه و هو مُخاصِر ليلى و يقول في خُيلاء: "اختلفوا ما شئتم, فلن يستطيع العقاد أن يكون أحسن من الرافعي, و لا الرافعي أحسن من العقاد, إلا يوم أضع عن أحدهما كتابا مثل كتابي عن الشؤيف الرضي". فقلتُ في نفسي: لا شك أن هؤلاء القوم لهم اتصال بشياطين الشعراء. إذن هذه فرصة ثمينة للسؤال عن شيطان أديب سَلا المفقود (1).
فانحنيتُ على كتاب هادئ أضناه تعب الجدال, فسلمتُ عليه و أعدتُ له السلام و كررته و أسرفتُ في قولي "سيدي" و "مولاي", فصاح الكتاب في ضجر و قلق: دعني من هذه الزخارف و هذه الآداب الفارغة التي اصطلحتم عليها معشر البشر. فقلتُ: عفوا إن أسأتُ الأدب, و لم أهتدِ كيف أخاطبكَ, فأنا -عافاك الله- مريض. فقال: هذا عُذرٌ لا نعرفهُ نحن معشر الشياطين, فالأمراض لا تتسلط إلا على المادة. ثم قفزَ و لكمَ كتابا بجانبه لكمة عنيفة إذ سمعَ منه شرا, و عاد قريبا مني. فقلتُ: إن هذا المرض الذي أصابني -عافاك الله- لم يُصب جسمي, و إلا استرشدتُ طبيبا و تداويت. فقال: إذن أنت مصاب في عقلك؟ فقلتُ: و لا هذا, و إلا لو كنتُ مصابا في عقلي لكنتُ الآن بين جدران سيدي ابن عاشر. أنا -عافاك الله- شاب غفل, و هذه شهادة الدبلوم و اللسانس تشهدُ لي بهذا الخزي و العار! ففانتزع مني الشهادات و مزقها و قال: أنا لا أعتبرُ الشهادات, فمن قال لك إنك غفل؟ قلتُ: "الثقافة" قال: "الثقافة؟" فلنبجل الثقافة! الثقافة عندنا معشر الشياطين مقدسة, نحن جنود الثقافة و الشعر و الأدب, لا نعمل إلا لها و لم نُوجد إلا لخدمتها, أينما وُجدنا وُجدت, و كلما فُقِدت فُقِدنا. هي نحن و نحن هي, غرسناها قديما باليونان فأينعت أوراقها, و تعهدناها بالشرق فأثمرت أغصانها, و ها نحن...فقلتُ: عفوا, ليست هذه الثقافة التي أعني, و إنما أعني أوراقا تُطبعُ سماها صاحبها "الثقافة" فضحك ضحكة ارتجت لها أركان الغرفة و قال لي: عجبا لكم معشر البشر ما أكثر هذيانكم, اسمع! ليس لي وقت فارغ لهذا الهذيان, نحن شياطين الأدب العربي في هذه الأيام في معركة عنيفة, انقسمنا نصفين, صفا مع صاحب العقاد, و صفا مع صاحب الرافعي, و إننا نتجلى كل ليلة في كتب العقاد و الرافعي في أي خزانة كانت و نناظر و نحاجج. فقلتُ: ما أسعد حظي بزيارتكم, فبالله عليك ألا أخبرتني عن شيطان أديب يبحث عنه جميع الشباب الغُفل. فقال: و من هو الأديب؟ فقلتُ: أبو زيد. فقال: و من أبو زيد؟ قلتُ: الساكنُ بسلا. فقال: عجبا! يذكرني كلامك هذا بقول شاعر القرون الخوالي:
سألنا عن ثمالة كل حي *** و كلهم أجاب: و من ثمالة؟
فقلت: محمد بن يزيد منهم*** فقالوا: الآن زدت بهم جهالة.
فما هي سلا و أين هي؟ قلتُ: لو كنتَ تقرأ "الثقافة" لاطلعت على ما قاله فيها شاب غفل, و لعلمت أنها مدينة جميلة على البحر المحيطي, بها ضريح للعلامة ابن عاشر. فضحك مستهزئا و قال: العلامة ابن عاشر! ألا تعلمُ أن العلماء أعداء الشياطين, و أننا معشر الشياطين لا نألف إلا الشعراء و الأدباء و الفنانين. فقلتُ: أديبُ سلا هذا يدعي أنه شاعر, و لكن...فقال: و لكن ماذا؟ فقلتُ: من سوء حظه أنه منذ اتصل بالشباب الغفل في مهنة يتعاطاها, صار يدعي أن شيطانه فر منه, و نحن خدمة للأدب و إخلاصا للفن نبحث عنه. فقال: أمر هذا الشاعر غريب؛ و صار يردد: أبو زيد...سلا...فصاح شيطان من كتاب كان يسمعنا و قال: نعم, نعم, أنا أعرف أديبا بسلا؛ فتروى الشيطان قليلا و قال: الآن عرفته, هيا بنا إليه, فأخذ بيدي و طرنا إلى أن وصلنا إلى حي بسلا منعزل هادئ, و نزلنا على جدران مهدمة تحسبها أطلالا فتسربناها, فإذا ليس بها إلا صحن كله تراب, و بوسطه رجل متين الجثة, أسمر اللون, مبيض الشعر, و على عينيه الضيقتين نظارتان, و بين يدي الشيخ كتب مفتوحة من جهة ديوان الشريف الرضي و صفي الدين الحلي, و من جهة أخرى أضغاث أوراق بها قصائد الشعر الملحون لسيدي التهامي المدغري و غيره. فصحتُ قائلا: ليس هذا أديب سلا الذي نبحثُ عن شيطانه, فقال الشيطان: لا تُزعج الشيخ الحكيم, فإنه عزيز عندنا إذ يحتفظُ لأدب بلادكم بهذه الأوراق البالية الحاوية لأشعار الملحون التي هي أحسنُ ما أوحيناه لكم و خير تراث شعرائكم, و هو إلى ذلك فرع شجرة طيبة, و مراعاته علينا واجبة. قلتُ: ما كُنتُ أظن أن هذا الشيخ المنعزل بهذه المكانة عندكم. قال: تبا لكم, أتظنون أن الشعر عندنا هو ذلك الكلام الموزون الذي يجمع شعراؤكم المعاصرون قوافيه من مختار الصحاح و المصباح, فلا ينطقون بما يشعرون, و لكن بما يسعه الوزن و تتحمله القافية؟ إن هذا الشعر الملحون الذي بين يديه و إن لم يحظ بالطبع على ورق صقيل, مزدان بالصور و خداع العناوين فهي وحي مردة الشياطين, و لكن ضاع رواؤه فيكم, فهجرتموه لضرير يتوسل به, أو دميم وجه يتكفف به أو منكر صوت يصيح به. ثم قال و قد خرجنا من خلوة الشيخ: أين منزل أديبك؟ قلت: قريب, و هو منزل أنيق تزينه خزانة تزخر بكتب اللغة و فقه اللغة و الدواوين الشعرية و شروحها. فقال لي: ويحك! لو قلتَ لي هذا في البداية لاتضح الأمر. الآن عرفتُ لماذا هجره أخونا شيطانه؛ إنه لم يهجره لأجل الشباب الغفل, و إنما هجره لأننا معشر الشياطين لا نجتمعُ و كتب اللغة في مكان واحد, نحن أعداء المقاييس و الموازين, نحن نهوى من يصدع عفوا بما نوحي إليه من المعاني؛ إن المعاني التي ننزل بها على أصحابها هي فلذات أكبادنا, و يعز علينا أن نراها سجينة في قوالب النحو و اللغة الضيقة الجافة.
و بينما نحن في هذا الحديث إذ لاحت لنا بناية واسعة الأرجاء, كثيرة النوافذ, حديثة العهد, فقال الشيطان: ما هذه البناية؟ قلتُ: هذه مدرسة (أي معمل من المعامل التي يُصنعُ بها الشباب الغفل) ثم زدت قائلا: هل منكم من يعرف شبانا أغفالا, أم أنتم على رأي صاحب "الثقافة" من أن الشباب الغفل لا صلة له بالأدب و لا صلة له بالشعر؟ فقال: معاذ الله! إن الشباب الغفل هم أبناؤنا و جنود من جنودنا و ما أعزهم عندنا؛ أرسلناهم ليتمردوا و يثوروا و يهاجموا و يُهدموا, فإذا قاموا بهذا الطور, طور التمرد و الثورة و الهجوم و الهدم و جلسوا يرتاحون, جعلنا جزاءهم ما نكنز لهم من شعر و أدب و فن و فلسفة؛ أما الآن فالعصر عصر هدم, و لن تسمع قيثارة شاعر, بل لن تسمع إلا المعول الهدام. و ما قطع علينا هذا الحديث في هذا الصبح الهادئ و هذا الهدوء السائد إلا وقع أقدام, فصمتنا و سكتنا ننظر من أعلى الجدران و إذا بالمار هو صاحب "الثقافة" فقلت للشيطان: أتعرف من القادم, هو صاحب "الثقافة". ثم سألته هلا تخبرني هل له شيطان عندكم؟ فقال: شيطانه من الإنس لا من الجن و لكن لتعلمن نبأه بعد حين, إن شيطان الإنس أشد بطشا و أقوى نكالا من شياطين الجن, ثم ويل لمن تآمرت عليه شياطين الإنس و الجن!
أسرَ بهذا و جذبنس قائلا: هيا بنا فقد آن للصبح أن ينفلقَ و آن لنا أن نختفي, فنحن أعداء النور و لا نهوى إلا الظلام. فما هي إلا لمحة بصر و إذا أنا في مكاني ممتد على مقعدي, فقال: وداعا. قلتُ: فهل لك أن تخبرني أي أديب أنت شيطانه؟ فقال: أتظن أنك تستطيع أن تعبث بالشياطين؟ واه لك! لقد صدق من قال إنك...(1).
....شاب غفل. فاس.
1- صاحب المقال الذي لم يعلن عن اسمه هو الاستاذ أحمد بناني, أحد أعضاء أسرة المغرب الثقافي.
شكرا اخي البناني على هذا المقال/ القصص
ردحذفالجميل..
رايتهم ومشيت معهم ذات يوم
اذ هم " في كل واد يهيمون"
ومنهم مسحورون بزخرف القول- نجانا الله منه واياكم-..
في انتظار ان تبهجونا بلغو الخريف.
تحياتي ومودتي