الاثنين، 15 يونيو 2015

أرجبة Orgivaالغرناطية, عاصمة المسلمين الصوفيين في إسبانيا.



أرجبة Orgivaالغرناطية, عاصمة المسلمين الصوفيين في إسبانيا.

هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس.
 
الأمريكية القطلانية مريم سكينة سكوت Mariam Sakina Scott
ترجمة لمقال Conversos sufies, los misticos del islam  للصحفي فرناندو سانشيز ألونسو. صحيفة الباييس الإسبانية. 22 يناير 2015.

"يعيش في إسبانيا حوالي 1200 صوفي نقشبندي, و هم أتباع إحدى الفروع الروحية في الدين الإسلامي. توجد مجموعة منهم في البشرات الغرناطية و مجموعة أخرى قرب قشريش Caceres. تقول بَهِيَّة الإشبيلية :"ينظرون إلينا كمخلوقات نادرة. الإسلام سلامٌ, و هذا ما لا يقبله المتطرفون".

في أرجبة 
أرجبة Orgiva, أو منهاتن  الصغيرة لإقليم الأندلس. عاصمة البشرات الغرناطية, و المكان الذي انسحب إليه أبو عبد الله آخر ملك نصري, أرض المورسكيين و مهدُ المهرطقين, تمُدُ للحاضر بعض عظمة الماضي المُتعدد الثقافات, فهذه المنطقة التي يقطنها بالكاد 6 آلاف شخص تأوي أحياءها 68 جنسية مختلفة.
 
أرجبة

لعل أفضل تجسيد لهذا التمازج الفسيفسائي هو مقهى "البَرَكة" الذي يديره قاسِم, ابن بلباو البالغ من العمر 41 سنة و المُعتنق للإسلام. في هذا المحل, الذي يرمز للتمازج الهادئ في أرجبة, يتعايش القروي السعيد و الفيلسوف الهائم و المتنبئ العلماني و الهيبي الذي يكتشف في شاي مغربي حنينا مفقودا في وودستوك Woodstock. يُجمِلُ قاسم (بيدرو باريو Pedro Barrio قبل الإسلام) الوضع قائلا: "لا يُمنعُ دخول أي شخص إلى هنا". لكن مقهى "البركة" -الذي لا يُقدم مشروبات كحولية- هو في المقام الأول قِبلة الطائفة المسلمة  المكوَنة من متحولين إسبان لم يكتفوا باعتناق الإسلام, بل و انغمسوا في فرعه الروحي و الباطني: الصوفية. إنها حياة من التأمل و السلام.

يتذكر قاسم قائلا: "عندما أخبرت عائلتي أني سأعتنق الإسلام, قبلت والدتي بالأمر. أما والدي فقد استاء بشدة. في الإسلام, لحوم الخنزير و الكحول ممنوعة. و من الصدف أني كنتُ في بلباو مُتذوق نبيذ, كما كنا نملك مطعما عائليا مشهور عند الجميع بإعداده أطباق لحكم الخنزير. كيف أكون مسلما و في نفس الوقت أحتسي النبيذ و أُقطِعُ لحم الخنزير؟ هكذا إذن فككت ارتباطي بمطعم العائلة و افتتحت واحدا خاصا بي. أنا الآن صوفي منذ 11 عاما, و هذا أمر أعتبره من أفضل ما جرى في حياتي"
 
قاسم البلباوي يقرأ القرآن بمقهى البركة
بالنسبة للمتحولين الإسبان, الإسلام جلب لهم "الأمل و السكينة". لكن الأمر لم يكن دائما سهلا. فبِغضِ النظر عن بعض الاستثناءات, جميعهم اصطدموا بعدم تفهم أقاربهم, فكان عليهم أن يشرحوا لهم ألا علاقة للإسلام بالسلفيين و الجهاديين المٌرنبطين بالعنف و بالتأويل الحرفي للنصوص المقدسة. حتى سنوات قليلة, كان الصوفيون المتحولون خاضعين لمراقبة أجهزة الاستخبارات CNI. يروي عمر إبراهيم (رفاييل مارتين Rafael Martin قبل الإسلام), و هو مدريدي يبلغ من العمر 59 سنة: "استدعونا إلى مكان لا أستطيع البوح باسمه, و سألونا من نحن, ماذا كنا نفعل, و ما علاقتنا بالجماعات الإسلامية"..."بعد مُدة, فهموا أننا فقط كنا نُنشدُ و نصلي, فتركونا و شأننا. لكن البعض منا مازالوا يتنصتون على هواتفهم"

ينتمي عدد كبير من الصوفيين الإسبان للطائفة النقشبندية التي تعود جذورها إلى عصر أبي بكر الصديق, الصحابي المُفضل لدى محمد و وريثه في الخلافة. أمير الطائفة في إسبانيا هو عُمر (فليبي مارتن Felipe Martin قبل الإسلام) و قد عيَّنه في منتصف السبعينيات المُعلم الأكبر, الشيخ ناظم, الذي تُوفي الربيع الماضي في قبرص. حسب عُمر, و هو برشلوني يبلغ من العمر 63 سنة, تُعتبر الطائفة مركزا روحيا و مشفى في نفس الوقت, "كان ناظم يستقبل كل من جرحهم المجتمع الحالي. هو بذاته كان يعتبر نفسه لا شيء. كان يقول بأنه قد تكون له قيمة ما إذا وضعه الله الأحد عن يمينه. ابنه و خليفته في زعامة النقشبندية يسير على نفس المنوال".

يوجد في عموم إسبانيا حوالي 1200 صوفي نقشبندي. أكبر تجمع لهم, حوالي 35 أسرة, يوجد في أرجبة, و السر وراء ذلك أن عُمر كان يقطن بها قبل اعتناقه الإسلام, فلما عيّنهُ الشيخ ناظم أميرا, تجمع حول الزعيم القطلاني في هذه المنطقة الغرناطية كل المسلمين الإسبان الذين استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ثاني تجمع صوفي من حيث الأهمية يقع في فيا نويفا ديلا فيرا Villa Nueva de la Vera بقشريش؛ فالريف ملائم أكثر للنضج الروحي و التأمل الرباني.
 
الصوفي لقمان يحمل ابنه في منزله بأرجبة.
تحت نور الشتاء, جمعٌ من الصوفيين يجني الزيتون في جبال أرجبة. فخواص الله هؤلاء يُفضلون امتهان واحدة من الحرف التي تُمجدها تقاليدهم: الفلاحة, تربية المواشي, التجارة و الصناعة التقليدية. هذا لا يعني أنهم يُشكلون طائفة مُنعزلة على هامش المجتمع, مثل طائفة "أميش" النصرانية مثلا. فهم لا يحتقرون الأنترنت و التلفاز و الصحف, و أبناؤهم يرتادون مدارس المنطقة. لكنهم جميعا متفقون على العيش حياة الزهد, ليوتوا الصوفية بهذا السلوك حقها. فالصوفية مشتقة من الكلمة العربية "صوف", و كانت في البداية تُطلق على بعض الزهاد المسلمين الذين كانوا يقلدون الرهبان النصارى, فكانوا يرتادون هذا اللباس "الوضيع" في إشارة لتخليهم عن الملذات الدنيوية.
صوفيون يجنون الزيتون بأرجبة

صوفيون يعملون في حقول بلدة فيانويفا دي لا فيلا  بقشريش

فالصوفي يعيش في العالم دون أن يكون أبدا من هذا العالم. "أدعو الله كل يوم أن يعينني على تحويل أنانيتي نحو سجادة صلاتي", هذا ما قاله منصور (خوثي كارلوس سانشيز José Carlos Sanchez سابقا), و هو مالقي (41 سنة) مُتخرج في علم النفس, و قد واصل حديثه مستنكرا  "رغم أن ثقافة الأندلس هي مُودةٌ اليوم, مع ذلك يسود رفض للمسلم لا يُمكن حجبه". زوجته بهية (ماريا خوثي فيا Maria José Villa) إشبيلية تبلغ من العمر 35 سنة و هي خريجة قانون, عززت ما قاله زوجها قائلة: "ينظرون إلينا نحن المتحولون إلى الإسلام كما لو كنا مخلوقات نادرة. الإسلام ليس كما يتصوره الناس. الإسلام سلامٌ. هو طلبٌ للحُب من الله, ليس كي تستأثر به لنفسك, و إنما كي تُسلمه للآخرين. إن لم تكن رغبتك في هذه الدنيا الذوبان في الحب الصافي, الذي هو الرب, فإسلامك لا معنى له"..."و هذا ما لا تقبله بعض الدوائر القريبة من التطرف الإسلامي, و التي تبحث عن إلغاء آية الرحمة في القرآن لصالح آية السيف", هكذا عبر محمد اسكندر (ألخندرو), ابن مدينة خيخون البالغ من العمر 54 سنة, و الذي فضل عدم كشف اسمه العائلي, و قد سبق له أن عمل في دوريات المراقبة الجمركية, و رسام أوشام ثم بحارا في السفن التجارية "رغم أن مهنتي الوحيدة الثابتة التي مارستها في حياتي كانت البحث عن الله".
علي يعلم ابنه الكتابة بالخط العربي

تبعُد "الدَركَة" -دار الاجتماع و الصلاة الصوفية- عن أرجبة حوالي 3 كيلومترات عبر طريق ملتو يخترق أشجار الزيتون و النارنج و بساتين الخضر و جداول السقايات. في الدركة, تقيم الطائفة الصوفية يوم الخميس مساءا حلقة للذكر و ترتيل أسماء الله, و هو طقس مشترك مع مسلمين آخرين, كما تقام "الحضرة", و هو طقس للتأمل صوفيٌ بامتياز يعتمد على ترتيل مجموعة من الأناشيد  تُمجدُ الرب و ترافقه تمايلات إيقاعية لليدين و للجسم, و هذا كله مصحوب بصوت آلات إيقاعية وسط عتمة تنيرها أنوار الشموع. حسبَ أمين (أندرس فرنانديث Andrés Fernandez قبل الإسلام) :"هذا الطقس يستحضر اللحظة التي نفخ فيها الله الحياة في آدم من روحه"..." يوم الجمعة, و هو يوم مقدس في الإسلام, نُقيم صلاة الجمعة باللغة العربية. و إلى هذا الحد تتلاشى معرفتنا باللغة المقدسة, مع بعض الاستثناءات. تكويننا الإسلامي نابع من مطالعات كثيرة و من الحديث مع إخوة أكثر علما و من مواعظ الشيخ. ربما نحن النقشبنديون أدنى الفئات فكريا بين الصوفيين. فالقلب هو أكثر ما يهمنا".  
الدركة, حيث يجتمع الصوفيون للصلاة و إقامة جلسات الذكر و الحضرة

ينحدر أمين من ليون و هو متزوج و يبلغ من العمر 45 سنة. كان قد دخل سلك الرهبنة :"لكن والدي تُوفي فدخلت في أزمة روحية حادة للغاية أصبحت بعدها شيوعيا. لم أكن أرغب في معرفة أي شيء عن الرب". ظل أمين صامتا لبُرهة يتأمل قبل أن يُكمل "لما اعتنقت الإسلام, شعرتُ أني عُدت أخيرا إلى منزلي"..."علمني أستاذي فن الفشل, أي أن تنساب مع الحياة و أن تُفكر بقلبك. من يتصرف بهذا الشكل لن يجني شيئا في المجتمع الحالي لكنه سيفوز بذاته, فالنسبة له للذهب و الطين نفس القيمة. و هذا معنى أن تكون صوفيا".
أمين فرنانديث

في قشريش

مرحبا Marhaban, هي العبارة المكتوبة على إشارة خشبية بين حقول التبغ و البساتين و المنازل القليلة التي تُشكل قرية ألديا تودال Aldea Tudal المُلحقة ببلدة فيا نويفا ديلا فيرا Villa Nueva de la Vera  بقشريش حيث تستقر ثاني أهم طائفة صوفية نقشبندية في إسبانيا, و التي يتزعمها الشيخ و النحاث المشهور على الصعيد الإسباني عبد الواحد (كريستوبال مارتين Cristobal Martin).

أخذتِ السيارةُ الاتجاه الذي يشير له السهم على الإشارة. بعد 5 دقائق تلاشى الطريق أمام منزل عمر إبراهيم, و هو مدريدي عاش 35 عاما في ألمانيا, أدار خلالها طيلة 10 أعوام سلسلة من المطاعم, "ثم بعتُ كل شيئ و قدِمتُ إلى هنا".

إنه الخميس. ينتظر عمر إبراهيم وصول باقي الإخوة إلى منزله الذي يتحول أحيانا إلى "دركة" لإقامة الذكر. "اعتنقت الإسلام قبل 30 عاما. فأصبحت أشعر من حينها أني نصراني بمعنى الكلمة. ليس هناك تناقض, فالمسيح نبي محبوب جدا في الإسلام. نحن نؤمن بالقديسين, نبجل قبورهم و جثامينهم. و هذا أمر يميزنا عن باقي المسلمين". ثم استرسل في تفسير الأسماء الصوفية: "الإسم العربي يختاره لك المعلم. هذا الاسم الجديد يعبر عن جوهرك الحقيقي, و يفيد في دفع المُريد للتطلع لتحقيق معنى الإسم. فعُمَر مثلا يعني القوة أو المدد".
الأخوان محمد بهاء الدين و عبد السلام

على غرار أرجبة, صوفيو فيا نويفا ديلافيرا هم إسبان. حسب جمال الدين (خوان أندرسJuan Andres  سابقا) و هو مدريدي يبلغ من العمر 44 سنة "لا يوجد إلا استثناء واحد ستمثل في وجود أخ مغربي". جمال الدين هو نموذج حي للمظهر الجمالي النقشبندي الخالص: الخاتم استحضارا للذي كان يضعه محمد, لحية وقورة, صدرية و سروال فضفاضان من طراز عثماني لتسهيل الحركة أثناء الصلاة, العصا و العمامة الخضراء التي هي بمثابة التاج الصوفي و الكفن الذي يلف جسم الصوفي العاري. 

ترتدي النساء بدورهن ملابس فضفاضة و تضعن الحجاب لتغطية رؤوسهن, و هو أمر يروق لحواء (آنا روزا سوطو Ana Rosa Soto سابقا), و هي سرقسطية سنها 41 سنة و أم ل 9 أبناء, " على المرأة أن تلبس باحتشام. نحن نتحجب لحماية موقعين حيويين في جسمنا: الرأس و الحنجرة. أنا استرجعت أنوثتي مع الإسلام"..."لم يتدخل أحد لدي لألبس بهذه الطريقة". بالنسبة لمريم سكينة سكوت Mariam Sakina Scott التي وُلدت مسلمة في أرجبة قبل 22 عاما لأب أمريكي و أم قطلونية اعتنقا الإسلام, الحجاب سبب لها مشاكل في مكان دراستها: "يعلم الجميع هناك أنني مسلمة, لكني لا أتباهى بذلك"..."تسود في مجتمعنا فكرة أن الإسلام هو دين مُتعصبين. كما لا يزال الفهم سيئا للصوفية. سألني البعض إن كنت أنتمي لطائفة (انعزالية). كيف أقول لهم أن الصوفية هي احترام و حب لكل الخلائق؟".
 
السرقسطية حواس سوطو
تعرف أوربا الصوفية خصوصا من خلال رقصة الدراويش التركية. يقول الشيخ عمر مارغريت"هي تحيل إلى التساءل عما هو الفرد حقيقة", "و هذا التساؤل لا يمكن الاجابة عليه إلا بالبحث عن الله في القلب. لهذا يؤدي الصوفي كل تعاليم الإسلام, لكنه لا يكتفي بها و يتعداها"
 
الشيخ عمر مارغريت
الصوفيون هم ضحايا الحركات الأكثر راديكالية في الإسلام, من سلفيي مصر و ليبيا, إلى طالبان باكستان, حيث يعتبرونهم مشركين. الصوفية أقدم بكثير, فهناك دراسات خَلُصت إلى وجود الصوفية قبل الإسلام و حددت مكانها في خرسان الكبرى, شمال شرق إيران. الأكيد أن هناك خلاف حول جذورها, و إحدى النظريات الأكثر شيوعا تفيد أن الصوفية تأثرت بالرهبانية النصرانية, بالفلسفة الأفلاطونية المُحدثة, بالشمانية في آسيا الوسطى, بالهندوسية و بالبوذية. لهذا تجد الصوفي يُقر بأن عقيدته كونية رغم انخراطها في الإسلام, و هي نفسها عقيدة باقي الأديان, و هي الوحدة مع الله, و المحرك الوحيد لذلك هو العشق اللامشروط لكل شيء و للجميع. الصوفي الأعظم ابن عربي المزداد في مرسية في القرن الثاني عشر عبَّر عن هذا الحال بهذه الأبيات:

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني

صلة الرحم بالأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق