الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

عندما اختصمت حواضر الأندلس فيما بينها!


عندما اختصمت حواضر الأندلس فيما بينها!

صلة الرحم بالأندلس.


خاطب أديبُ الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأميرَ عبد الرحمان ابن السلطان يوسف عبد المؤمن بن علي, و بعد مدحه بما يليق بمقامه, خاطبه بلسان أمصار الأندلس التي اختصمت في الأمير كل واحدة تذكر محاسنها و مفاتنها لعلها تحضى بشرف استقباله و الترحيب به. يقول ابن صفوان مخاطبا الأمير الموحدي:


ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار، وطال الوقوف على حبك والاقتصار، كلّها يفصح قولاً، ويقول: أنا أحق وأولى، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي، ويتلو إذا بُشِّر بك "ذلك ما كن نبغ"، تَنمَّرت حمصُ (إشبيلية) غيظاً، وكادت تفيظ فيظاً، وقالت: ما لهم يزيدون وينقصون، ويطمعون ويحرصون "إن يتبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يخرصون". لي السهم الأسد ،والساعد الأشد ،والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمد ،أنا مصر الأندلس والنيل نهري، وسمائي التأنس والنجوم زهري، إن تجاريتم في ذلك الشرف، فحسبي أن أفيض في ذكر الشرف، وإن تبجحتم بأشرف اللبوس، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس، لي ما شئت من أبينة رحاب، وروضٍ يستغني بنضرته عن السحاب، قد ملأت زهراتي وهاداً ونجاداً، وتوشح سيد نهري بحدائقي نجاداً، فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحق، "الآن حصحص الحق".



فنظرتها قرطبة شزراً، وقالت: لقد كثّرت نزرا، وبذرت في الصخر الأصم بزرا، كلام العِدى ضرب من الهذيان، وأنَّى للإيضاح والبيان، متى استحال المستقبَح مستحسناً، ومن أودع أجفان المهجور وسناً ," أفمن زيِّن له سوء عمله فرآه حسناً". يا عجباً للمراكز تُقدم على الأسنة، وللأثفار تُفضَّل على الأعِنَّة، إن ادَّعيتم سبقا، فما عند االله خير وأبقى: لي البيت المطهَّر الشريف، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف، في بقيعي محل الرجال الأفاضل، فليرغم أنف المناضل، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر، فحسبي من نباهة القدر، فما لأحدٍ أن يستأثر علي بهذا السيد الأعلى، ولا أرضى له أن يوطئ غير ترابي نعلاً، فأقرُّوا لي بالأبوة، وانقادوا لي على حكم البنوة، "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّةٍ" وكفوا عن تباريكم "ذلكم خير لكم عند باريكم". 

فقالت غرناطة: لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم، ولا تجري إلا تحته جياد الغيم السجوم، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف، ولا يهتدي إليّ خيالٌ طارق ولا طيف، فاستسلموا قولاً وفعلاً، فقد أفلح اليوم من استعلى، لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكاً، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكاً، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق، وبرد نسيم يرد ذَماء المستجير بالانتشاق، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال، فدعوني فكل ذات ذيل تختال، فأنا أولى بهذا السيد الأعدل، وما لي به من عوض ولا بدل، ولم لا يعطف علي عنان مجده ويثني، وإن أنشد يوماً فإياي يعني:

 بلاد بها عقّ الشباب تمائمي*** وأول أرضٍ مس جلدي ترابها

فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون، تبرأوا إليّ مما تزعمون "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".

فقالت مالقة: أتتركوني بينكم هملاً، ولم تعطوني في سيدنا أملاً، ولم وَليَ البحرُ العجاجُ، والسبل الفجاج، والجنات الأثيرة، والفاكهة الكثيرة؛ لديَ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل، فما لي لا أُعطى في ناديكم كلاماً، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاماً؟

فكأن الأمصار نظرا ازدراءً، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراءً، لأنها موطن لا يحلى منه بطائلٍ، ونظن البلاد تأوَّلت فيها قول القائل:

إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير*** من إجابته السكوت

فقالت مرسية: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدُّر تًنفّقون الصخرَ؟ إن عُدَّتِ المفاخر، فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري، وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النضير، والمرأى الذي ما له من نظير، وزنقاتي التي سار مثلها في الآفاق، وتبرقع وجه جمالها بغرة الإصفاق، فمن دوحات، كم لها من بكور وروحات، ومن أرجاء، إليها تمد أيدي الرجاء، فأبنائي فيها في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدَّعون. فانقادوا لأمري، وحاذروا اصطلاء جمري، وخلّوا بيني وبين سيدنا أبي زيد، وإلا ضربتكم ضرب زيد، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم "وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم".

 فقالت بلنسية: فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح؟ وتحت الرغوة اللبن الصريح، أنا أحوزه من دونكم، فأخمدوا نارَي تحرككم وهدونكم، فلي المحاسن الشامخة الأعلام، والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام، فأجمِعوا على الانقياد لي والسلام، وإلاّ فعضوا بناناً، واقرعوا أسناناً، فأنا حيث لا تدركون وأنّى، ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا.

فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشَّرار، واستدَّت أسهمها لنحور الشِّرار، وقالت: عش رجباً، تر عجباً، أبَعد العصيان والعقوق، تتهيئين لرتب ذوي الحقوق؟ هذه سماء الفخر فمن ضَمَّنَك أن تعرجي، ليس بعُشِك فادرجي، لك الوَصَبُ والخَبَلُ, "آلآن وقد عصيت قبلُ". أيتها الصانعة الفاعلة، من أدراك أن تُطِرِّي وما أنت ناعلة؟ ما الذي يجديك الروض والزَّهر؟ أم ما يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يُصلح العطّار وما أفسد الدهر؟ هل أنت إلاّ محطّ رحل النفاق، ومنرلٌ ما لسوق الخصب فيه من نَفَاق؟ ذراكِ لا يكتحل الطرف فيه بهجوع، وقِراكِ لا يسمن ولا يغني من جوع، فإلام تبرز الإماء في منصة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل:

بلنسيةٌ بِيِني عن القلبِ سلوةً--- فإنّك روضٌ لا أحِنُّ لزَهرِك
وكيف يُحب المرءُ داراً تقسَّمت ---على صارمَي جوعٍ وفتنةِ مشركِ

بَيد أني أسأل االله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد، و يسيل من تسديدك ما جمد، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد، وإياه سبحانه نسأل أي يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده، ويمكّن حسامه من رقاب المُشَغبين، ويبقيه وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويصل له تأييداً وتأبيداً، ويُمَهِدَ له الأيام حتى تكون الحرار لعبيد عبيده عبيداً، ويمد على الدنيا بساط سعده، ويهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده:

آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ *** حتّى أضيف إليها ألفَ آمينا

ثم السلام الذي يتأنَّق عبقاً ونَشراً، ويتألّق رونقاً وبِشراً، على حضرتهم العلية، ومطالع أنوارهم  السنية الجلية، ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. 

  المصدر: "نفح الطيب" للمقري. ص 167-173. طبعة دار الكتب العلمية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق