الاثنين، 26 ديسمبر 2016

الجنرال الإسباني إميليو مولا...صاحب عبارة "الطابور الخامس"


الجنرال الإسباني إميليو مولا...صاحب عبارة "الطابور الخامس"

هشام زليم.
مدونة صلة الرحم بالأندلس. 

إميليو مولا فيدال Emilio Mola Vidal (كوبا 1887-برغش 1937) هو عسكري إسباني لعب دورا مهما خلال ديكتاتورية بريمو دي ربيرا (1923-1930) و خلال الجمهورية الثانية (1931-1936) و في السنة الأولى من عمر الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). عُرفَ بكونه الرأس المدبر لانقلاب عام 1936 و الذي ترتب عن فشله الجزئي اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. تولى مولا عند اندلاع الحرب قيادة العمليات العسكرية لجيش الشمال المتمركز آنذاك في بلاد الباسك. كما عُرفَ أيضا بكونه من كان يقف وراء العمليات السرية التي كانت تستهدف قمع المتعاطفين مع الجبهة الشعبية التي كانت تضم اليساريين و الجمهوريين. في بداية الحرب الأهلية, كان التنافس على زعامة مُعسكر المتمردين الانقلابيين محتدما بين مولا و الجنرال فرانثيسكو فرانكو الذي كان يرى في هذا الأخير عقبة في طريق طموحاته, لهذا خلقت حادثة وفاة مولا في أوج الحرب الأهلية عام 1937 أقاويل و إشاعات كثيرة حول الدور المحتمل الذي قد يكون لعبه فرانكو في حادثة وفاته لكونه المستفيد الأول من غيابه عن الساحة السياسية و العسكرية, لكن لم يتم أبدا إثبات تورط فرانكو في وفاة مولا.


السنوات الأولى
وُلد إميليو مولا يوم التاسع من يوليو 1887 بكوبا التابعة آنذاك للعرش الإسباني, و كان والده إميليو مولا لوبيث يتولى آنذاك قيادة الحرس المدني بهذه الجزيرة الامريكية, و كان متزوجا من الكوبية رامونا فيدال و هي ابنة مهاجر قطلوني و كوبية محلية. يُعدُ مولا من ناحية والدته رامونا قريبا للمتمرد الكوبي ليونيسيو فيدال. بعد نكبة 1898, التي فقدت فيها إسبانيا مستعمرتها الكوبية, استقر مولا مع عائلته بإسبانيا. في الثامن و العشرين من غشت 1904 ولج إلى أكاديمية المشاة بطليطلة مُدشنا بذلك مساره العسكري.


حرب المغرب 
بعد تكوينه و ترفيعه إلى رتبة ملازم عام 1907, بُعث مولا للخدمة ضمن فيلق المشاة بايلن Bailen, ثم أُرسلَ للقتال في حرب مليلية في المغرب عام 1909 ضمن فيلق المشاة بمليلية حيث حصل على وسام عسكري لمشاركته في هذه الحملة, و تحول مع مرور الوقت إلى مرجع في الشؤون العسكرية. بعد اندلاع حرب الريف الاولى, حارب يوم 1 غشت 1911 ضمن القوات النظامية المحلية Regulares و خاض معارك سهل زايو. في ماي 1912 أصيب بجروح خطيرة في عضله الأيمن, و قد أسهمت هذه الإصابة في ترفيعه إلى رتبة نقيب لاستحقاقه العسكري. بعد تعافيه من الإصابة, بُعثَ إلى فيلق المشاة سرينيولا 42 و شارك معه في معارك إزحافن , إمعروفن و تالوسيت و في معارك منطقة تطوان التي توجها بترفيعه إلى رتبة رائد لاستحقاقه العسكري. بُعثَ عام 1915 إلى كتيبة القناصة Batallon de Cazadores التابعة لفيلق Alba de Tormes 40 ببرشلونة, ثمَ عين بعد سنتين و نصف في مدريد ثم في سبتة ناظرا في قضايا القيادة العامة بالمدينتين. شارك على رأس مجموعة من نظاميي سبتة في عدة معارك في المغرب ما بين أكتوبر 1919 و 1920: معركة ملالين, واد الراس, القصر الصغير, كودية الطاهر, واد لاو, قلة العرصة...إلخ. و في يونيو 1921, قبيل نكبة أنوال بالريف, رُقيَ إلى رتبة عقيد و بُعث إلى فيلق المشاة أندلوسيا بسانتاندير في الشمال الإسباني. بعد 3 أشهر استُدعيَ لشغل منصب قائد نظاميي مليلية, ليعود بذلك و يشارك مرة أخرى في أهم معارك حرب الريف ضد عبد الكريم الخطابي كمعركة دار القبة التي دارت بعد إخلاء منطقة الشاون و إنزال خليج الحسيمة. في عام 1927, و في سن الأربعين, رُفّْعَ إلى رتبة عميد و تولى القيادة العامة للعرائش شمال المغرب.

في القيادة العامة للأمن

عُينَ مولا يوم 13 فبراير 1930 مديرا عاما للأمن الإسباني و هو منصب سياسي وَضَعَ فيه قيد التطبيق أفكاره المحافظة ما جعله مكروها لدى المعارضة الاشتراكية و الجمهورية. تمثل أهم إنجازاته في هذا المنصب في إعادة تنظيم الشرطة الحكومية. ففي 25 نونبر 1930 صدر قرار ملكي يُصادق على هيكلة جديدة للشرطة تُصبحُ من خلاله تحت الإدارة المباشرة و الوحيدة لمدير عام الأمن التابع لوزارة الداخلية, كما تقضي الهيكلة الجديدة بتقسيم الشرطة إلى جهازين: جهاز المراقبة و جهاز الأمن الذي سيشكل نواة حرس التدخل السريع فيما بعد. و قد مَنَح القانون هذين الجهازين طابعا مدنيا رغم أن جهاز المراقبة كانت تحكمه قوانين عسكرية و يُخضع عناصره لقانون العدالة العسكرية. 

قبل حدوث ما سيُعرفُ بتمرد "خاكا" حيث حاول عام 1930 الجمهوريون الأسبان إقامة الجمهورية بقوة السلاح, توجه إميليو مولا إلى رفيقه فيرمن غالان, أحد قادة تمرد "خاكا", محاولا ثنيهُ عن  التمرد العسكري ضد الملكية, و جاء في الرسالة التي بعثها مولا لفيرمن غالان:

"مدريد, 27 نونبر 1930:

إلى السيد الدون فيرمن غالان بخاكا:

صديقي النقيب المحترم,

"لا أتوجه بالكتابة إليك إلا باسم الرفقة و الصداقة التي أتحفتني بها شُكرا لي على تدخلي في الحادث العنيف في "كودية محفورة". إن الحكومة تعلم, كما أعلم أنا, نشاطاتك الثورية و دعواتك للتمرد رفقة قوات هذه الحامية. إن الأمر خطيرٌ و يُمكنُ أن تنجُمَ عنه أضرار لا يمكن جبرها. إن الحكومة الحالية لم تستولي على السلطة و لا يمكن اتهام أي فرد من أفرادها بالمشاركة في حركات التمرد, لهذا أيديها مطلوقة لتطبيق قانون العدالة العسكرية بكل صرامة و دون إحساس بوخز ضمير لكون أفرادها تلقوا معاملة أقل حزما. هذا من جهة, و من جهة أخرى, تذكَّر أننا لا نعطي ولاءنا لا لهذا النمط من الحكم أو ذاك, و إنما ولاءنا للوطن, و لا نستعمل الرجال و الأسلحة التي أئتمننا عليها الوطن إلا في الدفاع عنه. أدعوك للتفكر فيما أقوله لك, و ألا تنصاع وراء نزوة عابرة و إنما لما يمليه عليك ضميرك. إذا قُمتَ بزيارة مدريد, أتمنى أن تتفضل بزيارتي. إن هذا ليس ثمن دفاعي عنك أمام الفريق سيرانو, و لا حتى أمر, بل مجرد طلب من صديق يُقدركَ بصدق و يبعثُ لك بتحياته.

إميليو مولا."
 

لكن تمرد "خاكا" وقع في النهاية و فشل فشلا ذريعا: أُعدمَ النقيبان غالان, صديق مولا, و إرنانديث رميا بالرصاص, بينما سُجنَ أبرز الزعماء الجمهوريين. نشاط الشرطة بقيادة مولا ضد محاولة الانقلاب الجمهورية عززت هيبته في أعين الحركات الجمهورية و الطلابية المعارضة للنظام الملكي.

الجمهورية الإسبانية الثانية

أُعلِنَ قيام الجمهورية الإسبانية الثانية يوم الرابع عشر من أبريل من عام 1931. أثَّر ماضي مولا المُعادي للجمهورية سلباً على موقف الحكومة الجمهورية الجديدة منه, حيث أقالته على الفور من منصبه. و بعد فشل تمرد الجنرال سان خورخو عام 1932, و الذي لم يشارك فيه مولا, قامت حكومة مانويل السانية بتنكيسه مرة أخرى و هذه المرة إلى صف الاحتياط الثاني. ترتب عن وقف صرف راتبه مشاكل اقتصادية دفعته للكتابة في بعض المنابر الإعلامية مقابل المال.

في ماي 1934 تم العفو عن مولا فعاد إلى الجيش حيث خدم في القيادة العامة المركزية للجيش رفقة الجنرال فرانكو و آخرين. في غشت 1935 عُينَ قائدا عاما للمنطقة الشرقية المغربية و مقرها بمليلية. و في أواخر السنة ذاتها تولى قيادة القوات العسكرية بالمغرب و مقرها بتطوان, عاصمة منطقة الحماية الإسبانية شمال المغرب. 

بعد وصول الجبهة الشعبية ذات التوجه اليساري إلى السلطة في فبراير 1936, تم القيام بحركة تنقيلات كبرى في صفوف قادة الجيش الإسباني لتفادي مؤامرة عسكرية وشيكة قد تطيح بالحكومة. هكذا تم نقل مولا من المغرب و عُينَ حاكما عسكريا لبمبلونة شمال إسبانيا كقائد لكتيبة مشاة, حيثُ تم اعتبار هذه المنطقة بعيدة عن دائرة الأحداث و على هامش الحياة السياسية و العسكرية.

المؤامرة العسكرية

سارع مولا بالانضمام لمجموعة الضباط الذين كانوا يخططون لقلب نظام الجهورية الثانية. فقد اجتمع في بداية مارس 1936 بمدريد كبار القادة العسكريين. كان من بينهم إميليو مولا و فرانثيثسكو فرانكو. و بعد فشل محاولة تمرد في مدريد منتصف أبريل تزعمها الفريقان رودرغيث باريو و فاريلا, قرر إميليو مولا في أواخر هذا الشهر أخذ زمام الأمور و قيادة حركة عسكرية هدفها إسقاط حكومة الجبهة الشعبية بالقوة. أولى التوجيهات التي بعثها مولا للوحدات الانقلابية تُظهِرُ جليا الطابع العسكري المحض للانقلاب. و في التوجيه الثاني الذي يحمل تاريخ 25 ماي 1936 تم تحديد مدريد كهدف رئيسي للانقلاب. حمل المخطط الانقلابي طابعا مركزيا عكس المخططات السابقة لمجموعة الجنرالات و التي كانت تحمل طابعا لا مركزيا. اعتمدت خطة مولا على الهجوم على مدريد من حاميات بلنسية, سرقسطة, برغش و بلد الوليد. في فاتح يوليوز شدد توجيهٌ جديد لمولا على دعم الاحزاب السياسية للحركة الانقلابية. وُضعَ المخطط و اتُفقَ عليه و حُدِدَ تاريخ 19 يوليو لتنفيذه.


بوساطة رايموند غارسيا غارسيا المُلقب بغارسيلاثو, عضو البرلمان و مدير تحرير يومية Diario de Navarra  اتصل الكارليون بإميليو مولا في ماي 1936 و دخلوا معه في مفاوضات شاقة و مكثفة بغرض انضمامهم لحركته العسكرية الانقلابية. تمثلت أهم نقاط الخلاف بين مولا و الكارليين في نوع النظام الذي سيتولد عن الانقلاب و العَلَم الذي سيحمله الانقلابيون, ففي الوقت الذي خطط فيه مولا لحمل علم الجمهورية الثلاثي الألوان, تمسَّك الكارليون بالعودة لتبني العلم الملكي الثنائي الألوان. أما بخصوص النقطة الخلافية الأولى, فقد رفض الكارليون رفضا قاطعا مقترح مولا الذي أورده في توجيهه ليوم 5 يونيو و القاضي بفرض ديكتاتورية عسكرية جمهورية, و طالبوا بأن يتماشى النظام الجديد مع العقيدة السلفية و الكاثوليكية للكارلية, أي شطب جميع الاحزاب السياسية و إقامة حكومة غير ديمقراطية يترأسها الجنرال سان خورخو. و رغم عِلمِ مولا بأن مشاركة الكارليين النافاريين و الباسكيين أمر لا بد منه لإنجاح الانقلاب إلا أنه وصف مطالبهم بالغير مقبولة في توجيهه لفاتح يوليوز. الجنرال سان خورخو نفسه, و هو كارلي و أصوله من نبارة, حاول من منفاه بالبرتغال التوسط في المفاوضات بين مولا و الكارليين حتى أنه بعث رسالة إلى مولا رفضها هذا الاخير معتبرا إياها مزيفة باسم الجنرال المنفي.

القطيعة النهائية بين مولا و الكارليين حدثت يوم التاسع من يوليوز بعد تبادل عقيم للبرقيات  بين الجنرال مولا و مانويل فال كوندي, زعيم الكارليين. هذه القطيعة أدت لتأجيل موعد التمرد في بنبلونة و الذي كان محددا يوم 12 يوليوز. عندما وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة اتصل الزعيم السابق للكارليين, و زعيم كارليي نبارة الكوندي رودزنو و نصحه بالتفاوض مباشرة مع الكارليين النباريين المنشقين عن القيادة الوطنية و الذين كانوا على استعداد للتمرد متجاهلين أوامر زعيم الكارلية فال كوندي, و هذا ما أخبروا به مولا يوم 12 يوليوز. لكن مقتل الزعيم اليميني خوثي كالفو سوتيلو يوم 13 يوليوز سرَّع عجلة الأحداث و دفع الكارليين للانضمام للتمرد و إرجاء الحديث عن النظام الجديد و ترك المسألة بيد الجنرال سان خورخو.

يوم 16 يوليوز تحادث مولا مع رئيسه الجنرال دومنغو باتيت في دير إراتشي و سأله هذا الاخير مباشرة إن كانت له علاقة بالتمرد المحتمل و طلب منه أيضا كلمة شرف بعدم المشاركة فيه, و بالفعل تعهد له مولا بذلك قائلا: "ما أتعهد لك به هو أنني لن أخوض أي مغامرة". الجنرال باتيت بعدما تيقن بأن مولا لن يشارك في الانقلاب بعث إلى الحكومة يخبرها بذلك. ما كانوا يعلمون بأن مولا من خلال الاسم الحركي "المدير" Director بعث التعليمات السرية إلى الوحدات العسكرية المتواطئة في الانقلاب. بعد سلسلة من التأجيلات تم تحديد يوم 18 يوليوز 1936 كموعد نهائي لبدء التمرد. رغم نجاح الانقلاب في منطقة الحماية الإسبانية شمال المغرب و إعلان حالة الحرب في جزر الكناري, انتظر مولا حتى يوم 19 يوليوز لبدء التمرد في نبارة حيث كان يعول على الدعم الحاسم للكارليين. عزمه و إصراره على بدء الانقلاب و إنجاحه بدى واضحا من خلال برقياته السرية للوحدات المنقلبة. فنقرأ مثلا في توجيهه الذي يحمل تاريخ 25 ماي 1936 بمدريد:

"ليكن في الحسبان أن الحركة يجب أن تتسم بأقصى درجات العنف لتحجيم العدو القوي و الجيد التنظيم في أقل وقت ممكن. هكذا سيُسجنُ كل رؤساء الأحزاب السياسية و الشركات و النقابات التي لا تنتمي للحركة, و القيام بتعذيب هؤلاء الأفراد عذابا مثاليا لوأد أي حركة تمرد أو إضرابات".

الحرب الأهلية الإسبانية


فشل الانقلاب

كان من المتوقع أن يحظى الانقلاب في نبارة بدعم شعبي كبير, لهذا لم يوضع في الحسبان تشكل معارضة له. لكن قائد الحرس المدني بنبارة, خوثي رودرغيث مديل عارض منذ اللحظات الأولى الانقلاب العسكري و رفض الانضمام إلى ركبه. اتصل مولا بخوثي لإقناعه, لكنه تيقن بأنه سيبقى وفيا للجمهورية. عندما اجتمع مديل برجاله في قيادة الحرس المدني بنبارة علمَ أن رجاله ليسوا في صفه و قد حسموا أمرهم بالوقوف مع مولا. حاول مديل الهرب لكنه أصيب بأعيرة نارية أردته قتيلا. في ليلة 18 إلى 19 يوليوز, تحادث مولا هاتفيا مع رئيس الحكومة الجمهورية المؤقت دييغو مارتنيث باريو طلب فيها هذا الأخير من مدبر الانقلاب العودة إلى الانضباط تجنبا لفظاعات حرب قد بدأت في النشوب, و عرض عليه وزارة الحربية في حكومة عسكرية. لكن مولا تعلل بأن الوقت قد فات و لا يمكنه العودة للخلف. يوم 19 يوليوز 1936, بدأ الانقلاب العسكري, و بعث مولا توجيهات جديدة للوحدات المتمردة:

"من الضروري خلق جو من الرعب, يجب ترك إحساس بالسيطرة عبر سحق كل من لا يفكر مثلنا, دون شفقة أو تردد. يجب أن نُحدثَ انطباعا قويا, فكل من يدافع علنا أو في الخفاء عن الجبهة الشعبية ينبغي إعدامه رميا بالرصاص". الجنرال مولا.

يوم 18 يوليوز اعتُقِلَ الجنرال باتيت من طرف رجاله لرفضه طلب مورينو كالديرون, رئيسه في القيادة العامة, بقيادة الحامية المتمردة. كان مولا على رأس الفرقة العضوية الرابعة التي كانت تتبع لها مناطق سانتاندير, برغش, بالينسيا, لوغرونيو, ألافا, بزكاية, غويبزكوا و نبارة. لكن الانقلاب فشل في هدفه الأساسي المتمثل في السيطرة على أغلب الأراضي الإسبانية, رغم أن جزءا مهما من الجيش دعمته, و سرعان ما تطورت الأحداث نحو حرب أهلية انقسمت على إثرها البلاد إلى فسطاطين: المنطقة التي بقيت موالية للجمهورية و حكومتها الشرعية, و المنطقة التي سيطر عليها المتمردون الانقلابيون. أصبح مولا القائد الأعلى للمنطقة الشمالية و الممتدة من قشتالة القديمة, قشريش, جليقية, أوفييدو, ألافا, نبارة و معظم أراغون.
مولا إلى جانب فرانكو

يوم 20 يوليوز, قُتلَ الجنرال سان خورخو في حادث تحطم طائرته التي كانت تُقلهُ عندما كان يهم بالقدوم من منفاه بإستوريل البرتغالية إلى إسبانيا للإشراف على الحركة الانقلابية كما كان مخططا لذلك. و الآن و بعد فشل الانقلاب جزئيا و مقتل الجنرال سان خورخو المنسق العام لتحركات و عمليات الانقلاب, أعاد الانقلابيون ترتيب أوراقهم. بعد وفاة الجنرال سان خورخو بالبرتغال, عُينَ الجنرال فرانثيسكو فرانكو قائدا عاما لجيش إفريقيا, و هي الوحدة العسكرية التي كان بالإمكان الاعتماد عليها من طرف الانقلابيين لتوفرها على إمكانيات لكسر الجمود الذي بلغه الوضع بعد فشل الانقلاب. أصبح مولا قائدا لجيش الشمال, أما فرانثيثكو فرانكو, قائد جيش أفريقيا بالمغرب, فقد عبر جبل طارق بقواته و نجح من خلال حملات عسكرية خاطفة الوصول إلى تخوم العاصمة مدريد. هكذا, يوم فاتح أكتوبر 1936, و بفضل نجاحاته العسكرية و شعبيته الجارفة في المعسكر المتمرد رُفِّعَ فرانكو من طرف رفاقه في مجلس الدفاع الوطني إلى منصب قائد الدولة و الجنرال الأعلى لجيوش العمليات, لتخرج بالتالي نهائيا الإدارة العسكرية و السياسية للانقلاب من يد الجنرال مولا.

معارك جبال مدريد

رغم فشل التمرد في مدريد و برشلونة و حواضر أخرى, إلا أن مولا استمر في تنفيذ مخططه الأولي. فقد توجهت كل القوات المتمردة نحو مدريد لإخضاعها, بينما يممت الفرق العضوية السادسة و السابعة بسرعة نحو الجنوب. لكن الوحدات المتقدمة نحو مدريد من الشمال تم رصدها من طرف القيادة العامة التابعة للجمهورية يوم 20 يوليوز. خسر العقيد المتمرد خوثي خيستاو قائد طابور برغش أراضي في محطة سوموسيرا الجبلية فأرسل مولا أمرا لطابور غارسية إسكاميث بالذهاب لمساندة مواقع خيستاو. كانت الطوابير الثلاثة التي تزحف على مدريد من الشمال عبر الجبال  أمل مولا الوحيد. أما الفرقة العضوية الخامسة بأراغون بقيادة الجنرال كابنياس فلم تبرح مكانها بسبب دفاعها عن مواقعها فباتت غير قادرة على تقديم الدعم للزحف على العاصمة. 

بين 21 و 23 يوليوز احتلت القوات الجمهورية المحطات الجبلية بعد هزمها للحاميات الانقلابية المكونة من الفالانخيين, الكارليين و الملكيين القادمين من مدريد قبل أيام بهدف السيطرة على الموانئ إلى حين وصول طوابير مولا إليها و تأمينها عسكريا. لكن قدوم المليشيات الجمهورية التابعة لفالنتين غونزاليث المشهور بالكامبيسينو معززة بالمدفعية أفشلت هذا المخطط الانقلابي و سيطرت على المحطات الجبلية. يوم 24 وصل طابور غارسية إسكاميث المتمرد إلى محطة وادي الرملة Guadarrama و استولى على حين غرة على مرتفعات سيبوييرا و كركانتونيس و أجبر المدافعين عنها على الفرار. نائب وزير الحربية في الحكومة الجمهورية المُعين حديثا الجنرال كارلوس برنال قرر رفع عديد الجنود بالمنطقة و الانسحاب نحو محطة جبلية قرب بويتراغو. مع ذلك واصلت قوات إيسكاميث المتمردة الهجوم عبر طريق برغش كمحور رئيسي للهجوم حتى توقف زحفها عند القناطر القديمة  Puentes viejas . و في جبهة أخرى من الجبال الشمالية لمدريد, في ميناء وادي الرملة برز في الجانب الجمهوري قائد فيلق السكك الحديدية العقيد قشتليو إلى جانب إنريكي ليستر قائد المليشيات الشيوعية و قائد فرقة النظاميين خوان غيوتو ليون المشهور بموديستو. يوم 22 يوليوز وصل طابور بلد الوليد المتمرد بقيادة العقيد سيرادور إلى منطقة سان رفاييل حيث انضمت له قوات من تلك المنطقة, و بمساعدتها استطاع السيطرة على المحطة الجبلية. يوم 24, حاول ليستر و موديستو استعادة المنطقة لكن من دون جدوى. في الأخير وصل الوضع يوم 27 يوليوز إلى مرحلة الجمود. و هذا ما كان يعني بأن مخطط مولا قد فشل بما أنه لم يستطع السيطرة على مدريد من الشمال. هكذا تولى جيش إفريقيا المغربي بقيادة فرانثيسكو مولا مهمة فتح العاصمة الإسبانية من الجنوب.

الطابور الخامس

في خريف عام 1936, كانت القوات المتمردة تزحف بعزم على مدريد و اعتُقِدَ على أن المدينة أوشكت على السقوط. في مداخلة تلفونية على الراديو, و هو يشير إلى تقدم القوات المتمردة نحو مدريد, ذكر مولا بأنه تحت قيادته 4 طوابير كانت تتجه نحو العاصمة (طابور قادم من طليطلة, و آخر من طريق اكستريمادورا, و آخر من جبال مدريد الشمالية و آخر من سيغوينزا) و طابور آخر خامس مُشكل من المتعاطفين مع الانقلابيين داخل العاصمة كانوا يعملون في الخفاء لصالح الانقلاب. حسب بعض الكُتاب, مِثل ميخائيل كولتسوف مراسل يومية برافدا الموسكوفية و المبعوث الشخصي لستالين إلى إسبانيا, كان قائل هذه العبارة هو الجنرال خوثي إنريكي فاريلا و ليس الجنرال مولا.

أيا كان قائلها, المهم أن هذه العبارة الشهيرة نشأت من قلب الحرب الأهلية الإسبانية و أصبحت جزءا من المُفردات العسكرية التي تشير إلى جزء من السكان يشكلون أقلية, يكونون موالين للمعسكر العدو لأسباب دينية, اقتصادية, إديولوجية و إثنية.

على رأس جيش الشمال

منذ الأيام الأولى للحرب, تولى مولا مهمة إدارة العمليات العسكرية في الشمال ضد الرافضين للانقلاب و الموالين للجمهورية. فحاول السيطرة على منطقة غويبزكوا خصوصا عبر معبر إيرون الحدودي الرابط مع فرنسا حيث تمر الأسلحة و الذخائر. في بداية شتنبر استطاع مولا احتلال إيرون و معبرها الحدودي باسطا سيطرته مع بداية خريف عام 1936 على كل منطقة كويزكوا, لكن المقاومة الشرسة للقوميين الباسك و الجمهوريين منعته من دخول بزكاية. و كان عليه مواجهة المحاولات التي باءت كلها بالفشل للمليشيات الباسكية لاسترداد الأراضي الباسكية التي تمردت منذ البداية أو التي أُخضِعت بعد التمرد. بعد توقف الحملة العسكرية أعادت القوات المتمردة تنظيم صفوفها و تجديد هيكلتها, حيث أُدرِجَ جيش الشمال تحت سلطة مولا الذي بسط سيطرته العسكرية على كل منطقة كانتبرية رغم أن مقره كان ببمبلونة.

بقي هدف مولا الرئيس هو الاستيلاء على بزكاية و عاصمتها بلباو التي تُعدُ معقلا حصينا للقوميين الباسك في شمال إسبانيا. يوم 31 مارس 1937 شن مولا هجومه الكبير على منطقة بزكاية: فبعد قصف عنيف و مركز من الطيران و المدفعية, تقدم العقيد ألونسو فيغا من يمين الجبهة لاحتلال جبال ماروتو, ألبرتيا و خاروندو. في شمال فياريال, وسط الجبهة, جرت اشتباكات عنيفة في محيط أوتشاندبانو. هذه المواجهات العنيفة حول هذه البلدة استمرت إلى حدود يوم 4 أبريل. أمام المقاومة الشرسة و الغير متوقعة التي أبداها الباسك, قرر مولا وقف العمليات العسكرية لإعادة ترتيب صفوفه, و هو الإجراء الذي انتقده بشدة الجنرال فون سبيرل. يوم 20 أبريل بدأ الانقلابيون المتمردون في بزكاية تقدما جديدا, بدأ الباسكيون في الخروج من المتاريس الاصطناعية التي احتموا خلفها, هاربين من القصف المدفعي للنافاريين. و على وقع هتافات "لقد حوصرنا", هرب العديد من المقاتلين بصورة فوضوية كما حدث في أوتشانديانا. كان يسود صفوف الباسكيين مناخ من التشاؤم و الرعب أمام ما كان يوصف بأنها هزيمة شاملة, فقد كان يُعتقدُ أن سقوط الجبهة أمر لا مفر منه و أن مسألة دخول مولا و قواته إلى بلباو مسألة وقت فقط, لكن الوضع تغير بعد ذلك.

مجزرة غرنيكا

كانت القوات الباسكية المنسحبة من الجبهة مجبرة على المرور من بلدة غرنيكا للوصول إلى موقع سنترون دي هييرو. كانت غرنيكا تُعتبرُ العاصمة الثقافية و التاريخية للباسك, و كان يقطنها قبل الهجوم حوالي 7 آلاف نسمة انضاف إليهم عدد كبير من القوات التي انسحبت إليها للاستعداد للدفاع عن بلباو, إضافة للاجئين الذين كانوا يفرون من زحف قوات المتمردين. لم تكن البلدة تتوفر على مضادات أرضية رغم توفرها على 3 مصانع للسلاح, أحدها لصناعة قنابل الطائرات. بدأ القصف الجوي للطائرات الألمانية و الإيطالية المتحالفة مع المتمردين على بلدة غرنيكا على الساعة الرابعة و النصف عصرا يوم 26 أبريل 1937, و رغم الادعاءات بأن هدف العملية كان مجرد تدمير قنطرة, فإن الحقيقة أن القنطرة و مصنع أسلحة يقع في ضواحي البلدة بقيا سالمين. كان الهجوم الجوي ساحقا, حيث ألقت الطائرات المقنبلة كمية هائلة من القنابل على المركز الحضري للبلدة. طائرات هينكل 51 الألمانية قصفت في نفس الوقت القوات التي كانت تفر من البلدة. خلف الهجوم رد فعل دولي غاضب على العملية و زاد في شراسة مقاومة الباسكيين. اشمأز مولا من فظاعة الهجوم, و رغم أن الهجوم نفذته الطائرات الألمانية و الإيطالية, إلا أنه لم يتم تحديد درجة علمه بالهجوم.

استمر تقدم المتمردين رغم شراسة المقاومة الباسكية. لكن سوء الأحوال دفعت مولا لتأجيل عملياته ضد بلباو. في منتصف ماي 1937 تراجعت القوات الباسكية إلى حدود سنترون دي هييرو تحت وقع القصف و استخدام فيلق كوندور الجوي الالماني للقنابل الحارقة على الغابات لإجبار الجنود الجمهوريين على التراجع.

حادث وفاة مولا

يوم الثالث من يونيو من عام 1937 توفي الجنرال مولا في حادث سقوط الطائرة التي كان يسافر على متنها, و هي من طراز Air Speedenvoy و ذلك على إثر اصطدامها بتلة عالية في ضواحي ألكوثيرو بسبب سوء الأحوال الجوية. كان الدافع وراء الرحلة هو الهجوم الجمهوري بلاكرانخا الذي استنفر مولا و دفعه للإصرار على الانتقال إلى فيتوريا ببلد الوليد للإشراف عن قرب على العمليات.

منذ اليوم الأول لوفاته, سرت إشاعات حول مقتله, حيث اعتُبر أن وفاته تصب بكل وضوح في صالح فرانكو. ينبغي الإشارة إلى أن مولا اعتاد استعمال هذه الطائرة في تنقلاته, و بعيدا عن الإشاعات, لا توجد أية ادلة على وجود عمل تخريبي في الطائرة.

جعلت وفاة سان خورخو و مولا فرانكو الزعيم الأوحد للانقلابين العسكريين. الجنرال دافيلا, قائد المجمع التقني للدولة, خلف مولا في قيادة جيش الشمال. بالنسبة للكارليين شكلت وفاة مولا ضربة قاسية لهم, فرغم الخلافات التي شابت في البداية علاقتهم به, نشأت مع مرور الوقت علاقة تعاون عميقة بينهم. سقطت بلباو أخيرا يوم 19 يونيو, لكن مولا لم يعش ليرى هذا اليوم الذي سعى لرؤيته منذ بداية الحرب.

دُفنَ مولا في مقبرة بمبلونة عام 1937, و في عام 1961 نُقلَ جثمانه إلى ضريح كايدوس الذي أُنشأ في هذه المدينة. في بلدة الكوسيرو شيد نُصب تذكاري له و بُدِل اسم البلدة تكريما له ليصبح ألكوسيرو دي مولا. بعد ذلك منحه فرانكو في ذكرى يوم وفاته الصليب الأعظم للقديس فرناندو. في عام 1948 مُنح مولا لقب دوق إسبانيا.

صورة مولا بعد وفاته

بعد الحرب الأهلية التي انتهت بفوز معسكر المتمردين بزعامة فرانكو, رُفع مقام مولا و سُميت العديد من الشوارع و الأماكن العامة باسمه و لم تستعد هذه الأمكنة أسماءها الأصلية إلا بعد صدور دستور 1978. ففي مدريد, تغير اسم شارع الامير فرغويرا إلى شارع الجنرال مولا, و هو نفس الاسم الذي حملته محطة المترو الواقعة تحت هذا الشارع. أما في برشلونة, فمحطة فرداغوير سميت باسم الجنرال مولا خلال الحقبة الفرانكوية. نفس الأمر حدث مع مطار فتوريا الذي أصبح يحمل اسم مطار الجنرال مولا.

رأي الشاعر الشيلي نيرودا في مولا

الشاعر الشيلي بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1971, خصص للجنرال مولا واحدة من أشرس قصائده في ديوانه "إسبانيا في القلب" (عام 1937), و اسم القصيدة "مولا في الجحيم".

اتهامات بجرائم ضد الانسانية و الاحتجاز غير القانوني

عام 2008, ورد اسمُ مولا بين الخمسة و الثلاثين مسؤولا رفيعي المستوى خلال الحقبة الفرانكوية الذن توبعوا قضائيا بجرائم ضد الإنسانية و الاحتجاز غير القانوني التي ارتُكبت خلال الحرب الأهلية الإسبانية و  السنوات الأولى من حكم فرانكو. القاضي بلتزار غارسون اعتبر متابعة مولا لاغية بسبب وفاته قبل 60 عاما. و هو أمر لاقى انتقادات واسعة.

هشام زليم.
مدونة صلة الرحم بالأندلس..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق