الأربعاء، 3 أبريل 2013

لو أن أرضي حرة... الشاعر ابن حمديس الصقلي

لو أن أرضي حرة... الشاعر ابن حمديس الصقلي 


 



عبد الجبار ابن حمديس الصقلي (1053م-1133م)....وُلد و ترعرع و تعلم بجزيرة صقلية...جاء إلى إشبيلية في الأندلس فأصبح واحدا من الشعراء و الأدباء الذين أحاطوا بالأمير الأندلسي الشاعر المعتمد ابن عباد...أثناء مُقامه في نَعماء المعتمد وقعت مصائب أثرت فيه كثيرا لفجاعتها و مأساويتها...مات والده فحزن لذلك و رثاه بقصيدة...سقطت جزيرة صقلية فضاع الوطن...مات عدد من أهله و أصحابه و هم يدافعون عن وطنهم, فغاب الأحباب...

لم يكن ابن حمديس يعلم أن الأيام تتربص به و بولي نعمته...فسرعان ما نَكَّبَ المرابطون الأميرَ المعتمد...و أرسلوه سجينا إلى أغمات بالمغرب...و بسقوط دولة ابن عباد أقفر قصره...و انفض الشعراء و الأدباء من حوله...و تفرق جمعهم...إلا قلة منهم ظلت على الوفاء...و في مقدمتهم ابن حمديس الذي بقي أمينا مخلصا...و ظل يزوره في سجنه بأغمات ...و ظل يمدحه أسيرا كما كان يمدحه سلطانا...


رأى ابن حمديس في نكبة المعتمد و خروجه من إشبيلية ضياعا لوطنه الثاني...فانتقل في شمال إفريقيا بين مدينة و أخرى جائلا ضائعا لما يقرب من 40 عاما...و امتدح لضرورات العيش من هم أقل شأنا...

هنا خالجه شعور ضياع الوطن و الأهل و الأحباب و أحس بالوحشة والغربة و تكالب الجميع عليه...فأبدع تلك القصيدة التي يشكو فيها الزمان و سوء الحال و تمنى فيها لو أن أرضه حرة, و هذه القصيدة كاملة و يقول مطلعها:


تدَرّعْتُ صبري جُنَّةً للنوائبِ ** فإن لم تُسالمْ يا زمان فحاربِ

عجمتَ حصاةً لا تلين لعاجمٍ ** ورُضْتَ شموساً لا يذلّ لراكبِ

كأنّك لم تقنع لنفسي بغربةٍ ** إذا لم أُنَقّب في بِلاد المَغاربِ

بِلادٌ جرى فوق البُلادة ماؤها ** فأصبح منه ناهلاً كلُّ شاربِ

فُطِمتُ بها عن كلّ كأسٍ ولَذّةٍ ** وأنفقتُ كنزَ العمر في غير واجِبِ

يبيت رئاسُ العضب في ثِنْيِ ساعدي ** مُعاوضَةً من جِيد غيداءَ كاعبِ

وما ضاجعَ الهنديُّ إلا مثلّماً ** مُضارِبه يَومَ الوغى في الضّرائبِ

إذا كانَ لي في السَيفِ أُنس ألِفته ** فلا وحشة عندي لِفقد الحبائِبِ

فَكُنتُ وَقَدّي في الصَبا مِثلُ قَدّه ** عَهدتُ إِلَيه أَن مِنهُ مَكاسِبي

فَإِن تَكُ لي في المَشرَفِيّ مآربٌ ** فَكَم في عَصا مُوسى لَهُ مِن مَآرِبِ

أَتحسبني أنْسَى وما زلت ذاكِراً ** خِيانةَ دَهري أو خيانةَ صَاحبي

تَغَذّى بأخلاقي صغيراً ولَم تَكُنْ ** ضَرائِبُه إلّا خِلافَ ضَرائبي

ويا ربّ نَبْتٍ تعتريهِ مرارَةٌ ** وقد كان يُسقى عذبَ ماء السحائِبِ

علمتُ بتجريبي أموراً جَهِلتُها ** وقد تُجْهَل الأشياءُ قبل التجارِبِ

ومَنْ ظَنّ أمْواه الخضارم عَذْبَةً ** قضى بخلاف الظنّ عندَ المشارِبِ

ركبتُ النّوَى في رحلِ كلّ نَجيبةٍ ** تُواصِلُ أسبابي بقطع السَباسِبِ

قِلاصٌ حَناهنّ الهزالُ كَأنها ** حنِيّات نَبْعٍ في أكفِّ جواذِبِ

إذا وَرَدَتْ من زرقة الماءِ أَعيُناً ** وقَفْنَ على أرجائها كالحواجِبِ

بصادقِ عزْم في الأماني يُحِلّني ** على أمَلٍ من همّةِ النفس كاذِبِ

ولا سَكَنٌ إلا مناجاة فكرضةٍ ** كأني بها مستحضرٌ كلّ غائِبِ

ولما رأيْت الناس يُرْهَب شرهُم ** تجنّبْتُهم واخترْت وَحْدَة راهِبِ

أَحتّى خَيالٌ كُنتُ أَحظى بزَوْرِهِ ** لَه في الكَرى عن مَضجعي صدّ عاتِبِ

فَهل حالَ من شَكلي عليهِ فَلم يَزرْ ** قضافةُ جسمي وابيضاضُ ذوائبي

إذا عدَّ مَن غابَ الشُهورَ لِغُربَةٍ ** عددتُ لها الأحقابَ فوقَ الحقائِبِ

وكَم عَزَماتٍ كالسيوفِ صوادِق ** تجرّدها أيدي الأَماني الكواذِبِ

ولي في سماء الشرقِ مَطلَعُة كَوكَبٍ ** جلا من طلوعي بينَ زهرِ الكواكِبِ

ألفتُ اغترابي عنه حتى تكاثَرَت ** له عُقَدُ الأيّام في كفِّ حاسِبِ

متى تَسمَعُ الجَوزاءُ في الجو مَنطقي ** تصخْ في مَقالي لارتجالِ الغرائِبِ

وكم لي به من صنوِ وُدٍّ محافظٍ ** لذي العيب من أعدائهِ غير غائِبِ

أخي ثقةٍ نادَمْتُهُ الراحَ والصبا ** له من يدِ الأيامِ غَيرُ سوالِبِ

معتّقةٌ دعْ ذكر أحْقابِ عُمرها ** فقد مُلئتْ منها أناملُ حاسِبِ

إذا خاض منها الماءُ في مُضْمَر الحشا ** بدا الدرّ منها بين طافٍ وراسِبِ

لياليّ بالمهديَّتين كأنها ال ** لآلئُ منْ دنْياك فَوقَ ترائِبِ

ليالي لم يذهبن إلّا لآلئاً ** نظمنَ عقوداً للسّنين الذواهِبِ

إذا شئتُ أنْ أرْمي الهلالَ بلحظَةٍ ** لمحتُ تَميماً في سماءِ المناقِبِ

ولو أنّ أرضي حرةٌ لأتَيتُها ** بعزمٍ يعُدُّ السيرَ ضربةَ لازِبِ

ولكنَّ أَرضي كَيفَ لي بفكاكها ** من الأسْر في أيدي العُلوجِ الغواصِبِ

لَئِن ظَفِرت تِلكَ الكِلابُ بأَكلِها ** فبعد سكونٍ للعروقِ الضوارِبِ

أَحينَ تفانى أَهلها طوْعَ فتنةٍ ** يضرّم فيها نارَه كلُّ حاطِبِ

وأَضحَت بها أَهواؤهم وكَأَنَّما ** مذاهبهم فيها اختلافُ المذاهِبِ

ولَم يرحَمِ الأَرحامَ منها أقارِبٌ ** تروّي سيوفاً من نجيع أقارِبِ

وكان لهم جَذْبُ الأصابِعِ لم يَكُن ** رواجبُ منها حانياتِ رواجِبِ

حُماةٌ إذا أبْصَرْتَهُمْ في كريهَةٍ ** رضيتَ من الآساد عن كلّ غاضِبِ

إِذا ضَارَبوا في مأزِقِ الضربِ جرّدوا ** صواعقَ من أيديهمُ في سحائِبِ

لهم يومَ طَعْنِ السُّمْرِ أيدٍ مبيحةٌ ** كُلَى الأسْدِ في كرّاتهم للثَعالِبِ

تخبّ بهمْ قبٌّ يُطيلُ صهيلُها ** بأرْض أعاديهم نياحَ النّوادِبِ

مؤلَّلَةُ الآذان تحتَ إلالهمْ ** كما حُرّفَتْ بالبريِ أقلامُ كاتِبِ

إذا ما أدارَتها على الهام خلتَها ** تَدورُ لِسَمعِ الذِكر فوقَ الكَواكِبِ

إذا سكتوا في غمرةِ الموْتِ أنْطقوا ** على البيض بيضَ المرهفاتِ القواضِبِ

تَرى شُعَل النيرانِ في خَلجِ الظبا ** تذيق المنايا من أكفِّ المواهِبِ

أُولئكَ قومٌ لا يُخاف انحرافُهُمْ ** عن الموت إن خامَتْ أسودُ الكتائِبِ

إِذا ضَلَّ قومٌ عن سَبيلِ الهُدى اهتدوا ** وأيّ ضَلالٍ للنّجوم الثواقِبِ

وكم منهمُ من صادق البأس مُفْكِرٍ ** إذا كَرّ في الأقدامِ لا في العَواقِبِ


له حملةٌ عن فتكَتَينِ انفراجُها ** كفتكِك من وجهين شاهَ الملَاعِبِ

إذا ما غَزَوْا في الرّومِ كان دخولُهُمْ ** بطونَ الخلايا في مُتون السّلاهِبِ

يموتونَ موتَ العِزّ في حَوْمةِ الوَغى ** إذا ماتَ أهلُ الجبنِ بين الكَواعِبِ

حَشَوْا من عجاجاتِ الجهادِ وسائداً ** تُعَدّ لهم في الدّفن تَحتَ المَناكِبِ

فغاروا أفولَ الشهب في حُفَرِ البلى ** وأبْقَوْا على الدنْيا سوادَ الغياهِبِ

ألا في ضمانِ اللَّه دار بِنُوطَسٍ ** وَدَرّتْ عليها مُعْصِراتُ الهواضِبِ

أُمَثّلُها في خاطري كلّ ساعةٍ ** وأمْري لها قَطْرَ الدّموعِ السواكِبِ

أَحنّ حنينَ النيبِ للمَوطنِ الّذي ** مغَاني غوانيه إِليهِ جَواذبي

ومن سار عن أرْضٍ ثوى قلبُهُ بها ** تَمَنَّى له بالجِسمِ أَوبةَ آيِبِ


ابن حمديس

المرجع: بحث من مجلة مجلة العربي. عدد 367. يونيو 1989م.

هشام زليم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق