مقال إسباني: "كوفادونغا: المعركة التي هزم فيها 300 نصراني جيش الإسلام القوي"
جريدة ABC الإسبانية. الكاتب مانويل فياتورو Manuel P Villatoro. مدريد. 20 أكتوبر 2013.
"عام
722 م, قاومت مجموعة أشتورياسية صغيرة, تحت إمرة دون بيلايو Don Pelayo,
الحصار الذي فرضه آلاف الأعداء شمال الجزيرة الإيبيرية".
دون بيلايو في الكهف الذي انطلقت منه المقاومة ضد الغزو الإسلامي. |
بصلابة و شجاعة و بذل للدماء و استسهال للموت, انتصر 300 جندي تحت إمرة دون بيلايو, أول عاهل لمملكة أشتورياس, على آلاف من المسلمين تجاسروا على حصار كوفادونغا, آخر جيب نصراني ظل يقاوم في الجزيرة الإيبيرية بعد الغزو العربي.
في عام 722م, كان جزء صغير من أشتورياس هو ما تبقى من الأراضي التي كان يسيطر عليها يوما ما القوط الغربيون. كان يقطنه عدد ضئيل من الجنود, نجحوا رغم ذلك في هزم و مطاردة الجيش المسلم و من تمّ الشروع في حرب الاسترداد النصرانية La Reconquista نحو الجنوب؛ و هي المغامرة التي ستنتهي بعد 8 قرون بطرد المسلمين من غرناطة.
كانت كوفادونغا الحلقة الأولى من المسلسل الذي سيتمخض, بعد ذلك, عن ميلاد مختلف الممالك الإيبيرية التي ستقوم بطرد المسلمين. كما كانت أيضا ردة الفعل المتأخرة لشعب خسر لصالح الغازي, في غضون 10 سنوات فقط, أغلب الأراضي التي كان يستقر فيها.
للإحاطة بالأسباب التي دفعت دون بيلايو لخوض حرب الاسترداد, لا بد من العودة إلى عام 711م, لمّا كانت الجزيرة الإيبيرية, إسبانيا Hispania, تابعة للقوط الغربيين, ذلك الشعب النصراني الذي كان يحكمه الملك دون لوذريق Don Rodrigo المُستولي على العرش بعد حرب أهلية عنيفة ضد أنصار الملك المُتوفى الزعيم غيطشة Witiza, فكان له الظفر عليهم.
بداية الغزو:
لم يتلذذ الدون لوذريق طويلا بطعم الانتصار, ففي كتابه "عام 711, الغزو المسلم لإسبانيا" وضح الأستاذ الصحفي دومنغو دومني سانشيث Domingo Domené Sanchez الأمر قائلا : " من المحتمل أن أرملة و أبناء غيطشة وصلوا إلى سبتة (تابعة للمسلمين آنذاك) في العام 710م بغية الحصول على دعم لاستعادة العرش".
لم يجد, على ما يبدو, أبناء غيطشة, المهووسون بالحصول على عرش "إسبانيا" -الذي يعتبرونه حقهم - حرجا في طلب مساعدة المسلمين. يقول الباحث دوميني: "الاستعانة بقوات, قد نطلق عليها أجنبية, للوصول للسلطة أو لتكريسها لم يكن أمرا جديدا (...) في المقابل, لم يكن الأجانب في المرات السابقة يتطلعون للسيطرة على كل إسبانيا, و إنما كانوا يستخلصون جزاء مساعدتهم نقدا أو مقابل قطع أرضية, و يتركون الحال على ما هو عليه".
لم يجد, على ما يبدو, أبناء غيطشة, المهووسون بالحصول على عرش "إسبانيا" -الذي يعتبرونه حقهم - حرجا في طلب مساعدة المسلمين. يقول الباحث دوميني: "الاستعانة بقوات, قد نطلق عليها أجنبية, للوصول للسلطة أو لتكريسها لم يكن أمرا جديدا (...) في المقابل, لم يكن الأجانب في المرات السابقة يتطلعون للسيطرة على كل إسبانيا, و إنما كانوا يستخلصون جزاء مساعدتهم نقدا أو مقابل قطع أرضية, و يتركون الحال على ما هو عليه".
كان الحال مختلفا مع المسلمين, حيث كانوا على علم بالضعف النصراني, و رأوا في هذا الصراع الداخلي الفرصة المثالية لغزو الجزيرة الأيبيرية. فقرر موسى بن نصير - الحاكم المسلم لإفريقية (تونس) - أن الأوان قد حان للاستيلاء على ثروات إسبانيا, فعهد بهذه المغامرة لجيش مكون من 11 ألف أمازيغي تحت إمرة طارق, أحد جنرالاته الأكثر تقديرا.
طارق بن زياد |
اتجه دون لوذريق المُتوج حديثا بقواته إلى قادش لمواجهتهم, و خطط لخوض المعركة قرب وادي لكة Guadalete على رأس جيش عرمرم من القوط الغربيين.
وادي لُكة: الهزيمة الساحقة.
يقول الباحث دومني في كتابه: "وصل دون لوذريق إلى قرطبة, و ركز فيها قواته من أجل الإرسالية العسكرية. يُعتقد أن تعداد جنوده كان 40 ألف رجل (...) و أنه سلك الطريق الروماني الرابط بين قرطبة - إستجة - قادش, بينما كان طارق يتقدم على طريق الجزيرة الخضراء - إشبيلية (...) يوم 19 يوليوز التقى الجمعان عند أطلال مدينة لاسيا Lacea, و تحديدا في وادي لُكة حسب التسمية المسلمة, Guadalete كما نسميه نحن".
لكن و عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى, لم يكن للجانب النصراني أدنى تفوق ساحق. يقول دومني: "في أي نشاط, يتمتع المُحترفون بميزة عن الهواة, و قد كان الجيش المسلم مكونا من جنود محترفين, بينما كان الجيش القوطي مكونا في جزء كبير منه من العبيد المُرغمين على القتال. و بالتالي لم يكن هناك أي امتياز لأي من الطرفين".
في النهاية, ما قلب موازين القوى في المعركة كان خيانة قائدين يشرفان على ميمنة و ميسرة جيش الدون لوذريق, و هذا ما ذُكر في كتاب "أخبار مجموعة" لمؤلف مجهول من القرن الحادي عشر : "فالتقى لُذريق و طارق, و هو بالجزيرة, بموضع يُقال له: البُحيرة, فاقتتلوا قتالا شديدا, فانهزمت الميمنة و الميسرة, انهزم بهم شسبرت و أبة, ابنا غيطشة, ثم قابل القلب شيئا من قتال, ثم انهزم لُذريق, و أذرع فيهم المسلمون بالقتل".
فُقِد أثر دون لوذريق بعد الهزيمة الكبرى, و انقطعت أخباره. البعض أورد أنه هرب و لقي حتفه متأثرا بجراحه, بينما يرى بعض المؤرخين المسلمين أنه تُوفي خلال مبارزة وجها لوجه مع طارق, أرداه خلالها هذا الأخير صريعا بضربة من رمحه.
بغض النظر عن مصير الملك, الأمر المُسلم به هو عدم وقوف أي شيء في وجه الجيش الأمازيغي بعد الهزيمة. هكذا و في غضون 10 سنوات فقط, أكمل المسلمون احتلالا سريعا لإسبانيا أزاحوا من خلاله القوط نحو الشمال.
يقول دومني: "المسلمون كالرومان, كلاهما احتل إسبانيا (...). و قد تساءل المؤرخون (...) لماذا اختلفت المدة الزمنية التي تطلبها الاحتلال في كلتا الحالتين (200 سنة استغرقها الرومان لاحتلال إسبانيا, بينما لم يتطلب الأمر سوى 10 سنوات بالنسبة للمسلمين)".
تبدو الأسباب واضحة بالنسبة لدومني: "لم تكن إسبانيا تشكل قبل الوجود الروماني وحدة سياسية (...) و بالتالي لم تكن هناك سلطة عليا تُغطي كل البلد و قادرة على توحيد المقاومة أو اقتراح الاستسلام للغازي, و إنما كانت هناك ثلة من الزعماء وجب إخضاع الواحد تلو الآخر. على العكس من ذلك كانت إسبانيا تحت حكم القوط تُمثل وحدة سياسية". هكذا, و باختفاء الدون لوذريق, انهارت البلاد بالكامل مرة واحدة.
من جهته, لم يُبد الشعب الإسباني مقاومة كبيرة للمسلمين, حيث كانوا في البداية يعتقدون أن مجيئهم سيحررهم من تجاوزات النبلاء القوط الذين اعتادوا إثقال كاهل السكان بالضرائب. هكذا, عرف الغزاة كيف يظفرون بثقة المجتمع عبر إلغاء الكثير من الضرائب. كما أن أحد أهم أسباب الاحتلال السريع يتمثل في الدعم الذي كان يحضى به المسلمون في شبه الجزيرة الأيبيرية. يقول دومني في كتابه: "لم يَحضَ الرومان بدعم داخلي مهم, بينما حضي المسلمون بذلك. فبالإضافة لأنصار غيطشة, استفاد المسلمون من تعاون اليهود".
على الرغم من الاحتلال السريع, كان النصارى في الشمال يحتفظون بمفاجئة غير سارة للمسلمين, فقد بدأت تتشكل مقاومة ضد الغزو, و بدأ المئات من القوط يستقرون في سلاسل جبال كانتبرية و البرانس. أشار الخبير دومني في كتابه: "أمام واقع الجغرافيا الذي يُقسم قطاع كانتبرية و البرانس إلى 4 مناطق, يمكن اعتبار وجود 4 مراكز للمقاومة المعادية للمسلمين, و التي سنسميها للتبسيط: نواة أشتورياس كانتبرية, النواة الباسكية النفارية في البرانس, ثم الأراغونية, فالقطلانية".
رغم عدم قدرة هذه الجماعات النصرانية الصغيرة على الوقوف الند للند أمام الغزاة, إلا أنها قررت الدفاع عن أراضيها حتى الرمق الأخير, بشكل جعل المسلمين يتخلوا عن فكرة احتلال أرضها, و اكتفوا بالمقابل بفرض ضرائب ضخمة و تشييد حصون بالقرب منها لمراقبة توسعها.
كانت النواة الأولى للمقاومة تتشكل في عموم المنطقة الجبلية, خصوصا في المركز الأشتورياسي. لم يمر وقت طويل حتى عينت هذه المجموعة الشمالية الصغيرة زعيما عليها سيقودها نحو النصر: إنه الدون بيلايو.
وصل هذا النبيل المزعوم للسلطة عام 718م, و كان قد ضاق ذرعا بالضرائب الضخمة التي كان يفرضها المسلمون, فأقنع مواطنيه بالتوقف عن دفع الضرائب. يقول دومني :"لقد أقنعهم بيلايو بعدم الدفع مستعملا حجة سهلة و دامغة: إذا كان المسلمون يريدون المال, فليأتوا لطلبه هنا, في الجبل".
كوفادونغا, بداية المناوشات:
و هذا ما فعله المسلمون: فقد شكلوا جيشا قويا و اتجهوا بعزم نحو المعقل الأشتورياسي مُصممين على إخماد نار التمرد. من جهتهم, قرر النصارى بقيادة دون بيلايو مجابهة الجيش المسلم. و اختاروا لمقاومة الجيوش العربية جيبا يُدعى كوفادونغا, و هو مكان يقع قرب منطقة Congas de Onis(شرق أشتورياس).
قام دون بيلايو بتحصين هذه المنطقة بالجنود القلائل الذين استطاع جمعهم. يقول الباحث المتخصص دومني: "بعد مطاردتهم من قبل المسلمين, لجأ بيلايو و 300 من رجاله إلى كوفادونغا, و هو كهف في جبل أوسيبا Auseba يقع في عمق مضيق وادي Picos de Europa.".
عند هذه النقطة تتشتت الروايات التاريخية و تختلف حسب كون الراوي نصرانيا أو مسلما. و هذا راجع لكون النصارى يتناولون الواقعة باعتبارها معركة ذات أبعاد ملحمية, بينما لا يتوقف المسلمون كثيرا عندها و يعتبرونها غير ذات أهمية.
القنطرة الرومانية Congas de Onis:
وفق التواريخ النصرانية, حاول أسقف قوطي مُسن يُدعى دون أوباس Don Oppas - استماله المسلمون - إقناع دون بيلايو بالاستسلام. لكن هذا الأخير ظل صامدا على موقفه حتى النهاية. و هذا ما أوردته الروايات النصرانية في عهد ألفونسو الثالث (القرن التاسع الميلادي): "كان بيلايو مع رفاقه في جبل أوسيبا, و قد زحف الجيش المسلم إليه و نصب ما لا يُحصى من الخيم مقابل مدخل الكهف. الأسقف المذكور (رئيس الأساقفة, دون أوباس, ابن غيطشة) صعد لربوة في مقابل كهف السيدة (Senora) و تحدث إلى بيلايو كالتالي: (أخي و ابني, أرى أنه لا يخفى عليك أن إسبانيا كانت منذ فترة قصيرة موحدة تحت حكم القوط, و كانت متوهجة أكثر من أي بلد آخر بفضل عقيدتها و علمها, و رغم جمعها لكل الجيش القوطي لم تستطع وقف اندفاع الإسماعيليين. هل تستطيع أنت الاحتماء في رأس هذا الجبل؟ أرى الأمر صعبا. أنصت لنصيحتي: عُد للاتفاقية, ستتمتع بأشياء كثيرة و ستستفيد من صداقة الكلدانيين)". فأجابه بيلايو: "ألا تقرأ في الكتابات المقدسة أن كنيسة الرب ستعود لتزدهر بفضل رحمة الرب؟". فما كان من الأسقف إلا الإقرار بذلك. كان القرار قد اتُخِذ, و علم الدون أوباس أنه لا مفر من القتال لطرد الأشتورياسيين, و هذا ما أخبر به الغزاة.
هكذا أمر القائد المسلم جنوده بشحن المجانق و القضاء على الدفاعات النصرانية الهزيلة. تقول الروايات القديمة: "هُيئت المجانق, لمعت السيوف, و استقامت الرماح, ثم أُطلقت السِهام".
في هذه اللحظة بالذات, و حسب الروايات النصرانية, انضمت قوة إلاهية للدون بيلايو و منحته النصر على 188 ألف جندي من الجيش المسلم. جاء في الروايات النصرانية: "هنا تجلت عظمة الرب, فالحجارة التي كانت تنطلق من المجانق و تصل مقام السيدة مريم العذراء داخل الكهف, كانت تعود سبيلها لترجُم من أطلقها و تقتل الكلدانيين (...). لقد قُتل في المكان عينه 125 ألف كلداني, بينما آوى 63 ألف الباقون إلى قمة جبل أوسيبا". و دائما حسب رواية ألفونسو الثالث, عاد الرب للتدخل مباشرة بعد ذلك : "لم يهرب هؤلاء من انتقام الرب, فقد اهتز الجبل فقذف ب63 ألف كلداني إلى الوادي فسحقهم جميعا".
في المقابل, لم تعط الكتابات المسلمة نفس النظرة البطولية للمعركة. تقول هذه الروايات بأن بضعة آلاف من الجنود اتجهوا لجليقية للقتال ضد "علج همجي يُدعى بيلاي". فحسب المسلمين, حاصر الجنود العرب القوات النصرانية حتى قضوا على جميعهم بعدما هلكوا بالجوع. جاء في "أخبار مجموعة" التي ترجمها الإسبانيان ألقنطرةAlcantara و البُرنس Albornoz : "فلم يزل يقاتلونه و يغاورونه حتى مات أصحابه جوعا (...)فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلا ليست معهم عُشر نَسوةِِ, و أعيا المسلمين أمرهم, فتركوهم و قالوا, ثلاثون علجا ما عسى أن يكون أمرهم".
وسط تعدد الروايات, عرض دومني سانشيث في كتابه رواية أكثر واقعية و قبولا, تقول هذه الرواية: وجد علقمة و رجاله أنفسهم مُجبرين على العبور من واد ضيق لمواجهة الأشتورياسيين, "ضيق المنطقة منعهم من التمدد. فأُرغموا على التقدم في صف واحد. كان أتباع بيلايو كامنين في السفوح, فكان من السهل عليهم نسبيا الانقضاض عبر وسيلة بسيطة: دحرجة الصخور و الحجارة نحو الأسفل".
دومني اعتبر أن ما فسرته الروايات النصرانية بالمعجزة -الصخور و الوادي ابتلعت آلاف المسلمين - يمكن أن يكون هزة أرضية حدثت في الوقت المناسب. في النهاية, بدى الباحث المتخصص مرتابا شيئا ما بخصوص عدد الجنود المسلمين القتلى : "لقد بالغ الراوي في قوله أن الجيش المسلم كان تعداده 188 ألف جندي". مهما يكن, الأكيد أن نصر كوفادونغا اعتُبر بداية الاسترداد النصراني Reconquista الذي سيدوم لحوالي 8 قرون. و معلوم المثل القائل: "أشتورياس هي إسبانيا, و الباقي أراضي مستولى عليها".
من بين الألغاز التي تتستر عليها معركة كوفادونغا و حرب الاسترداد الإسبانية, نجد الجدل حول أصل الزعيم الأشتورياسي الدون بيلايو. تقول الأسطورة أن الزعيم الأستورياسي كان ابن القريبين الدوق فافيلا دي كانتابريا Favila de Cantabria و لوث بتولار فرنانديث Luz Vitular Fernandez , و كلاهما من أقارب غيطشة. كان على هذا الزوج مفارقة بيلايو بمجرد ولادته. فقاموا بوضع الصغير في سلة على النهر (رواية إنجيلية الطابع) و عليها ورقة كُتب فيها: "جئت من عائلة نبيلة". و شاء القدر أن يتلقف والد دون لوذريق هذا الصبي.
هكذا يكون لوذريق و بيلايو قد تربيا معا و قاتلا جنبا إلى جنب في معركة وادي لكة. فبينما توفي الأول, فر الثاني إلى جليقية, و منها شرع في حرب الاسترداد.
الباحث دومني سانشيث لم يستسغ هذه الرواية: " في كل هذه الرواية الدرامية, يوجد شيء من الحقيقة و الكثير من الخيال. شخص و شخصية دون بيلايو يظلان لغزا بسبب عدم وجود وثائق معاصرة له". بالنسبة له, قد تكون هذه القصة تزويرا مخترعا من طرف المؤرخين بهدف إعطاء بيلايو ماض مرتبط بغيطشة, و بالتالي تبرير صعود هذا الملك الأشتورياسي الأول للعرش.
صلة الرحم بالأندلس.
لكن و عكس ما قد يبدو للوهلة الأولى, لم يكن للجانب النصراني أدنى تفوق ساحق. يقول دومني: "في أي نشاط, يتمتع المُحترفون بميزة عن الهواة, و قد كان الجيش المسلم مكونا من جنود محترفين, بينما كان الجيش القوطي مكونا في جزء كبير منه من العبيد المُرغمين على القتال. و بالتالي لم يكن هناك أي امتياز لأي من الطرفين".
في النهاية, ما قلب موازين القوى في المعركة كان خيانة قائدين يشرفان على ميمنة و ميسرة جيش الدون لوذريق, و هذا ما ذُكر في كتاب "أخبار مجموعة" لمؤلف مجهول من القرن الحادي عشر : "فالتقى لُذريق و طارق, و هو بالجزيرة, بموضع يُقال له: البُحيرة, فاقتتلوا قتالا شديدا, فانهزمت الميمنة و الميسرة, انهزم بهم شسبرت و أبة, ابنا غيطشة, ثم قابل القلب شيئا من قتال, ثم انهزم لُذريق, و أذرع فيهم المسلمون بالقتل".
فُقِد أثر دون لوذريق بعد الهزيمة الكبرى, و انقطعت أخباره. البعض أورد أنه هرب و لقي حتفه متأثرا بجراحه, بينما يرى بعض المؤرخين المسلمين أنه تُوفي خلال مبارزة وجها لوجه مع طارق, أرداه خلالها هذا الأخير صريعا بضربة من رمحه.
بغض النظر عن مصير الملك, الأمر المُسلم به هو عدم وقوف أي شيء في وجه الجيش الأمازيغي بعد الهزيمة. هكذا و في غضون 10 سنوات فقط, أكمل المسلمون احتلالا سريعا لإسبانيا أزاحوا من خلاله القوط نحو الشمال.
يقول دومني: "المسلمون كالرومان, كلاهما احتل إسبانيا (...). و قد تساءل المؤرخون (...) لماذا اختلفت المدة الزمنية التي تطلبها الاحتلال في كلتا الحالتين (200 سنة استغرقها الرومان لاحتلال إسبانيا, بينما لم يتطلب الأمر سوى 10 سنوات بالنسبة للمسلمين)".
تبدو الأسباب واضحة بالنسبة لدومني: "لم تكن إسبانيا تشكل قبل الوجود الروماني وحدة سياسية (...) و بالتالي لم تكن هناك سلطة عليا تُغطي كل البلد و قادرة على توحيد المقاومة أو اقتراح الاستسلام للغازي, و إنما كانت هناك ثلة من الزعماء وجب إخضاع الواحد تلو الآخر. على العكس من ذلك كانت إسبانيا تحت حكم القوط تُمثل وحدة سياسية". هكذا, و باختفاء الدون لوذريق, انهارت البلاد بالكامل مرة واحدة.
من جهته, لم يُبد الشعب الإسباني مقاومة كبيرة للمسلمين, حيث كانوا في البداية يعتقدون أن مجيئهم سيحررهم من تجاوزات النبلاء القوط الذين اعتادوا إثقال كاهل السكان بالضرائب. هكذا, عرف الغزاة كيف يظفرون بثقة المجتمع عبر إلغاء الكثير من الضرائب. كما أن أحد أهم أسباب الاحتلال السريع يتمثل في الدعم الذي كان يحضى به المسلمون في شبه الجزيرة الأيبيرية. يقول دومني في كتابه: "لم يَحضَ الرومان بدعم داخلي مهم, بينما حضي المسلمون بذلك. فبالإضافة لأنصار غيطشة, استفاد المسلمون من تعاون اليهود".
بداية المقاومة:
كهف كوفادونغا |
رغم عدم قدرة هذه الجماعات النصرانية الصغيرة على الوقوف الند للند أمام الغزاة, إلا أنها قررت الدفاع عن أراضيها حتى الرمق الأخير, بشكل جعل المسلمين يتخلوا عن فكرة احتلال أرضها, و اكتفوا بالمقابل بفرض ضرائب ضخمة و تشييد حصون بالقرب منها لمراقبة توسعها.
كانت النواة الأولى للمقاومة تتشكل في عموم المنطقة الجبلية, خصوصا في المركز الأشتورياسي. لم يمر وقت طويل حتى عينت هذه المجموعة الشمالية الصغيرة زعيما عليها سيقودها نحو النصر: إنه الدون بيلايو.
وصل هذا النبيل المزعوم للسلطة عام 718م, و كان قد ضاق ذرعا بالضرائب الضخمة التي كان يفرضها المسلمون, فأقنع مواطنيه بالتوقف عن دفع الضرائب. يقول دومني :"لقد أقنعهم بيلايو بعدم الدفع مستعملا حجة سهلة و دامغة: إذا كان المسلمون يريدون المال, فليأتوا لطلبه هنا, في الجبل".
كوفادونغا, بداية المناوشات:
و هذا ما فعله المسلمون: فقد شكلوا جيشا قويا و اتجهوا بعزم نحو المعقل الأشتورياسي مُصممين على إخماد نار التمرد. من جهتهم, قرر النصارى بقيادة دون بيلايو مجابهة الجيش المسلم. و اختاروا لمقاومة الجيوش العربية جيبا يُدعى كوفادونغا, و هو مكان يقع قرب منطقة Congas de Onis(شرق أشتورياس).
قام دون بيلايو بتحصين هذه المنطقة بالجنود القلائل الذين استطاع جمعهم. يقول الباحث المتخصص دومني: "بعد مطاردتهم من قبل المسلمين, لجأ بيلايو و 300 من رجاله إلى كوفادونغا, و هو كهف في جبل أوسيبا Auseba يقع في عمق مضيق وادي Picos de Europa.".
عند هذه النقطة تتشتت الروايات التاريخية و تختلف حسب كون الراوي نصرانيا أو مسلما. و هذا راجع لكون النصارى يتناولون الواقعة باعتبارها معركة ذات أبعاد ملحمية, بينما لا يتوقف المسلمون كثيرا عندها و يعتبرونها غير ذات أهمية.
القنطرة الرومانية Congas de Onis:
وفق التواريخ النصرانية, حاول أسقف قوطي مُسن يُدعى دون أوباس Don Oppas - استماله المسلمون - إقناع دون بيلايو بالاستسلام. لكن هذا الأخير ظل صامدا على موقفه حتى النهاية. و هذا ما أوردته الروايات النصرانية في عهد ألفونسو الثالث (القرن التاسع الميلادي): "كان بيلايو مع رفاقه في جبل أوسيبا, و قد زحف الجيش المسلم إليه و نصب ما لا يُحصى من الخيم مقابل مدخل الكهف. الأسقف المذكور (رئيس الأساقفة, دون أوباس, ابن غيطشة) صعد لربوة في مقابل كهف السيدة (Senora) و تحدث إلى بيلايو كالتالي: (أخي و ابني, أرى أنه لا يخفى عليك أن إسبانيا كانت منذ فترة قصيرة موحدة تحت حكم القوط, و كانت متوهجة أكثر من أي بلد آخر بفضل عقيدتها و علمها, و رغم جمعها لكل الجيش القوطي لم تستطع وقف اندفاع الإسماعيليين. هل تستطيع أنت الاحتماء في رأس هذا الجبل؟ أرى الأمر صعبا. أنصت لنصيحتي: عُد للاتفاقية, ستتمتع بأشياء كثيرة و ستستفيد من صداقة الكلدانيين)". فأجابه بيلايو: "ألا تقرأ في الكتابات المقدسة أن كنيسة الرب ستعود لتزدهر بفضل رحمة الرب؟". فما كان من الأسقف إلا الإقرار بذلك. كان القرار قد اتُخِذ, و علم الدون أوباس أنه لا مفر من القتال لطرد الأشتورياسيين, و هذا ما أخبر به الغزاة.
هكذا أمر القائد المسلم جنوده بشحن المجانق و القضاء على الدفاعات النصرانية الهزيلة. تقول الروايات القديمة: "هُيئت المجانق, لمعت السيوف, و استقامت الرماح, ثم أُطلقت السِهام".
معركة كوفادونغا |
كوفادونغا من وجهة نظر المسلمين
في المقابل, لم تعط الكتابات المسلمة نفس النظرة البطولية للمعركة. تقول هذه الروايات بأن بضعة آلاف من الجنود اتجهوا لجليقية للقتال ضد "علج همجي يُدعى بيلاي". فحسب المسلمين, حاصر الجنود العرب القوات النصرانية حتى قضوا على جميعهم بعدما هلكوا بالجوع. جاء في "أخبار مجموعة" التي ترجمها الإسبانيان ألقنطرةAlcantara و البُرنس Albornoz : "فلم يزل يقاتلونه و يغاورونه حتى مات أصحابه جوعا (...)فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلا ليست معهم عُشر نَسوةِِ, و أعيا المسلمين أمرهم, فتركوهم و قالوا, ثلاثون علجا ما عسى أن يكون أمرهم".
ماذا جرى في الحقيقة؟
وسط تعدد الروايات, عرض دومني سانشيث في كتابه رواية أكثر واقعية و قبولا, تقول هذه الرواية: وجد علقمة و رجاله أنفسهم مُجبرين على العبور من واد ضيق لمواجهة الأشتورياسيين, "ضيق المنطقة منعهم من التمدد. فأُرغموا على التقدم في صف واحد. كان أتباع بيلايو كامنين في السفوح, فكان من السهل عليهم نسبيا الانقضاض عبر وسيلة بسيطة: دحرجة الصخور و الحجارة نحو الأسفل".
عام 1922, الملك فليبي 13 يحيي ذكرى مرو 1200 سنة على معركة كوفادونغا. |
لغز قصة دون بيلايو:
من بين الألغاز التي تتستر عليها معركة كوفادونغا و حرب الاسترداد الإسبانية, نجد الجدل حول أصل الزعيم الأشتورياسي الدون بيلايو. تقول الأسطورة أن الزعيم الأستورياسي كان ابن القريبين الدوق فافيلا دي كانتابريا Favila de Cantabria و لوث بتولار فرنانديث Luz Vitular Fernandez , و كلاهما من أقارب غيطشة. كان على هذا الزوج مفارقة بيلايو بمجرد ولادته. فقاموا بوضع الصغير في سلة على النهر (رواية إنجيلية الطابع) و عليها ورقة كُتب فيها: "جئت من عائلة نبيلة". و شاء القدر أن يتلقف والد دون لوذريق هذا الصبي.
هكذا يكون لوذريق و بيلايو قد تربيا معا و قاتلا جنبا إلى جنب في معركة وادي لكة. فبينما توفي الأول, فر الثاني إلى جليقية, و منها شرع في حرب الاسترداد.
الباحث دومني سانشيث لم يستسغ هذه الرواية: " في كل هذه الرواية الدرامية, يوجد شيء من الحقيقة و الكثير من الخيال. شخص و شخصية دون بيلايو يظلان لغزا بسبب عدم وجود وثائق معاصرة له". بالنسبة له, قد تكون هذه القصة تزويرا مخترعا من طرف المؤرخين بهدف إعطاء بيلايو ماض مرتبط بغيطشة, و بالتالي تبرير صعود هذا الملك الأشتورياسي الأول للعرش.
صلة الرحم بالأندلس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق