الأحد، 3 يونيو 2018

محمد ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة النصرية



محمد ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة النصرية

هشام زليم
صلة الرحم بالأندلس.
نصب تذكاري لابن الأحمر في مسقط رأسه بأرجونة

محمد ابن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر ابن قيس الخزرجي (أرجونة 1194م - غرناطة 1273م) مؤسس دولة بني نصر و أول ملوك مملكة غرناطة ما بين 1238م و 1273م. يُرجع المؤرخون نسبه لسعد بن عبادة سيد الخزرج و أحد أكابر الصحابة. يُكنى أبا عبد الله, و يلقب بالغالب بالله, و يُعرفُ أيضا بمحمد الأول و ب"ابن الأحمر" نظرا لنظارة وجهه و احمرار شعره, و يشتهر في الرواية القشتالية باسم Alhamar. 



الجذور

وُلدَ محمد ابن يوسف عام 1194م في بلدة أرجونة Arjona  التي كانت تتبع آنذاك إقليم قرطبة, و هي اليوم من مدن إقليم جيان. و يُقال بأن مسقط رأسه كان في القصر الذي يُقام مكانه اليوم مشفى سان مغيل Hospital San Miguelفي ساحة سانتا مارية. كان أجداده من بني نصر مستقرين في مملكة سرقسطة إلى حدود عام 1118م تاريخ سقوطها بيد الملك الأراغوني الفونسو الأول فهاجروا جنوبا نحو أرجونة.


سلطان أرجونة

بعد هزيمة الموحدين في معركة العُقاب عام 1212م, بدأت الإدارة الموحدية للأندلس في التفكك ما أدى لظهور عصر ثالث لممالك الطوائف كانت أبرزها مملكة مرسية التي أسسها ابن هود عام 1228م الذي استطاع بسط سلطانه تدريجيا على ما تبقى من الأندلس المسلمة باستثناء مملكتي بلنسية و لبلة و بعض الممالك الإسلامية الصغيرة الأخرى. 

وُلد محمد بن يوسف بن نصر  في مهاد الفضيلة و النجدة. كان وافر الجرأة و العزم يتزعم قومه و يقودهم إلى مواطن النضال, و قد اعترف له قومه بالزعامة حيث كان يقودهم في حملات عسكرية لحماية الحدود من توغلات المسيحيين. 

خلقت هذه التوغلات المسيحية المتكررة و الهزائم المتوالية لقوات ابن هود مناخا ناقما على هذا الأخير, و قد استغل محمد ابن الأحمر هذا الجو لصالحه و ثار على ابن هود مدعوما بقبيلته الممثلة في شخص عمه يحي ابن نصر و بأصهاره بني أشقيلولة, فأُعلنَ سلطانا على أرجونة عام 1232م, ليشكل بذلك نواة مملكة غرناطة التي سيسطع نجمها فيما بعد. 
ساحة الملك الاحمر بأرجونة

شرع محمد الاحمر في توسيع حدود مملكته الوليدة بضم وادي آش, بسطة و شريش. و في عام 1233م استولى على أُبدة, بركونة, قرطبة و جيان التي اتخذها عاصمة لملكه.

ثم اتجه ببصره إلى مملكة إشبيلية حيث عقد حلفا مع صاحبها محمد الباجي الذي استولى عليها بعد أن أخرج منها عامل ابن هود. لكن محمد الأحمر غدر بالباجي و دس عليه من قتله. و لم يمض قليل على ذلك حتى أطاعته جيان و مالقة, و كثير غيرها من القواعد و الحصون القريبة. لكن بعد شهر فقط, ثار الإشبيليون على عامل ابن الأحمر و عاودوا الاعتراف بشرعية ابن هود عام 1235م, و قد  استطاع هذا الأخير في السنة السابقة 1234 استعادة قرطبة, و قد أقره الخليفة العباسي في بغداد ملكا على كل الأندلس.

أمام اشتداد قوة دعوة ابن هود و امتداد سلطانه نحو الغرب و الجنوب, رأى محمد بن يوسف الأحمر مصانعته و الانضواء تحت لوائه, فانحاز إليه و جاهر بطاعته مقابل الاعتراف بسيادته على أرجونة, بركونة و جيان.

ملك غرناطة

لكن الوضع تغير عام 1236م عندما سقطت مدينة قرطبة في يد الملك القشتالي فرناندو الثالث ثم مقتل ابن هود عام 1237م. حيث استغل محمد بن يوسف الاحمر تدهور الاوضاع و استولى عام 1238م على ألمرية, مالقة و غرناطة التي اتخذها عاصمة ملكه.

دخل محمد الاحمر مدينة غرناطة من باب البيرة هاتفا "و لا غالب إلا الله, و لا غالب إلا الله" و من وحي هذه الجملة اتخذ لقبه "الغالب بالله", و قد أصبحت شعارا لملوك بني نصر يكاد لا يخلو قصر أو معلمة من مآثرهم من ذكرها بدءأً بقصر الحمراء الذي شرع محمد الأول في تشييده في موضع حصن المدينة.

بضم محمد الاحمر لألمرية, مالقة و غرناطة, وصلت مملكة غرناطة لأوج توسعها, لكنها لم تستمر على هذا الامتداد سوى بضع سنين حيث بدأت تثير أطماع الممالك المسيحية, خاصة مملكة قشتالة بقيادة فرناندو الثالث الملقب بالقديس الذي استولى في ربيع عام 1244م على بلدة أرجونة موطن بني نصر, ثم حاصر غرناطة نفسها لمدة 20 يوما لكنه فك حصاره عنها بعد أن منيت قواته بخسائر فادحة. و في عام 1246 زحف القشتاليون على جيان و حاصروها حتى اضطر محمد الأحمر لمصانعة ملك قشتالة و مهادنته و اتفق معه على أن يحكم مملكته و أراضيه باسم ملك قشتالة و في ظله, و أن يؤدي له جزية سنوية, قدرها 150 ألف قطعة من الذهب, و أن يعاونه في حروبه ضد أعدائه, و أن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي (الكورتيس). و سلم الملك الغرناطي لفرناندو القشتالي جيان و أرجونة و بركونة Porcunaو بيغ Priego و الحجار Higuera و قلعة جابر رهينة بحسن طاعته. و في مقابل هذا الثمن عقد ملك قشتالة السلم مع محمد الاحمر لمدة 20 عاما. 

استغل محمد الأحمر انحسار و انكماش مساحة مملكته لتركيز جهود التشييد و التحصين فيما تبقى بين يديه مستفيدا من عقد تبعيته لملك قشتالة الذي جعله في مأمن من غزوات القشتاليين, القطلان و الأراغونيين الذين حوَّل ملكهم خايمي الأول بوصلته نحو بلنسية و جزر البليار. 

في هذه الآونة كان فرناندو الثالث ملك قشتالة يتأهب لافتتاح إشبيلية أعظم القواعد الأندلسية, و كما ينص عقد التبعية, قدَّم محمد الأحمر دعما عسكريا للملك القشتالي تمثل في 500 فارس غرناطي شاركوا في سقوط إشبيلية بيد القشتاليين عام 1248م.

"أرجونة, مهد الملك الأحمر" تذكار للملك المسلم في أرجونة.

في عام 1252م توفي الملك القشتالي فرناندو الثالث و خلفه ابنه ألفونسو العاشر الملقب بالعالِم, و قد سارَعَ ابن الاحمر لتجديد معاهدة السلام معه التي في إطارها قدمت مملكة غرناطة عام 1262 م الدعم العسكري لقشتالة لدخول مملكة لبلة (قرب ولبة Huelvaاليوم). و في نفس هذه السنة حاول ابن الأحمر الاستيلاء على مدينة سبتة في العدوة المغربية لكن محاولته هذه باءت بالفشل.

معاهدة السلام مع القشتاليين ستنهار عام 1264م بعد سقوط مملكة لبلة المسلمة  حيث أصبحت مملكة غرناطة الهدف الوحيد المتبقي لألفونسو العاشر حتى يسترد كامل شبه الجزيرة الإيبيرية, حيث بدأ حينها محمد ابن الأحمر بالبحث عن حلفاء جدد و قد وجدهم في ملوك بني مرين الذين بسطوا سيطرتهم  منذ عام 1258م على المغرب الأقصى.

الدعم العسكري و المعنوي الذي قدمه ابن الأحمر لثورة مدجني مملكتي شريش و مرسية  الخاضعتين للسيطرة القشتالية دفعت الملك ألفونسو العاشر القشتالي و خايمي الأول الأراغوني لإرسال قوات عسكرية لقمع الثورة و بعد ذلك توجهت القوات لحصار غرناطة لكنها فشلت و منيت بخسائر فادحة.

هذا التدهور في الأوضاع دفع حكام مالقة و وادي آش من بني أشقيلولة للتمرد على محمد بن الأحمر رغم قرابتهم إليه, حيث نقموا عليه أمورا عيدية بينها تقريبه لبني مرين على حسابهم. و في عام 1266م أعلنوا التمرد و الولاء لألفونسو العاشر. هكذا حاصر ابن الاحمر مالقة لمدة 3 أشهر و حينما عجز عن دخولها اتفق مع الملك القشتالي ألفونسو العاشر على منحه 250 الف مرابطي سنويا و التنازل النهائي عن شريش و مرسية مقابل التزام ألفونسو بعدم تقديم أي دعم للثوار الغرناطيين. لكن الملك القشتالي نقض المعاهدة, ما دفع محمد ابن الاحمر لدعم النبلاء القشتاليين الذين ثاروا على ألفونسو العاشر عام 1272م بزعامة نونيو غونزاليث دي لارا و ساعدهم في الاستيلاء على أنتقيرة.


اتخذ ابن الاحمر غرناطة عاصمة لمملكته بعد دخولها عام 1238م و قد اتخذ مجلسه و بلاطه في قصر "باديس بن حبوس" الذي سيتحول في القرن الخامس عشر إلى "دار الحرة". في نفس السنة جُددت الحصون الموجودة في تلة السبيكة و أقيمت فيها أبراج الحراسة و أصبحت تُسمى "بالقصبة الجديدة" و التي تُعرف حاليا بالحمراء و التي كانت حتى ذلك الحين تلعب دورا عسكريا فقط. بعد ذلك أضيفت بنايات القصر و البساتين و اتخذت الحمراء مقرا للحكم.

كان ابن الأحمر يباشر الامور بنفسه, و يدقق في جمع الأموال و الجبايات حتى امتلأت خزائنه بالمال و السلاح. و كان يعقد للناس مجالس عامة يومين في الأسبوع, يستمع فيها إلى الظلامات و ذوي الحاجات, و يستقبل الوفود, و ينشد الشعراء. و كان يجري في تصريف شؤون الملك على قاعدة الشورى.

و كان في مقدمة وزرائه أبو مروان عبد الملك بن يوسف ابن صناديد زعيم جيان, و هو الذي مكنه من التغلب عليها, و القائد أبو عبد الله محمد بن محمد الرميمي ولد صاحب المرية السابق. و كان بين كتابه المحدث الشهير أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد اليحصبي اللوشي. و كان من شعرائه أبو الطيب الرندي صاحب المرثية الشهيرة, و كان أثيرا لديه و قد نظم في مدحه بعض غرر قصائده.

توفي محمد ابن الاحمر عام 1273م على أثر سقطة من جواده  و دفن بالمقبرة العتيقة بأرض السبيكة جنوب شرق الحمراء. و خلفه في الحكم ابنه و ولي عهده أبو عبد الله محمد الثاني المعروف بالفقيه. 

و مات محمد ابن الاحمر, الملك المؤسس, تاركا غرناطة و قد توطدت دعائمها و استقر بها ملك بني نصر الفتي على أسس ثابتة. و قد كان من غرائب القدر أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة استطاعت أن تعيد لمحة من مجد الاندلس الذاهب, كما استطاعت بكثير من الشجاعة و الجلد أن تسهر على تراث الإسلام في الأندلس, زهاء مائتين و خمسين عاما أخرى.

يقول المؤرخ الأمريكي سامويل بارسنس سكوت Samuel Parsons Scottعن محمد ابن الأحمر: "كان محمد ابن الاحمر من أبرع أولئك الأمراء الذين كان لهم فضل خلال العصور المضطربة, في الدفاع عن الإسلام و مجد المسلمين, و كان جريئا بعيد الغور, و لكن مكره لم يكن راجعا إلى طبيعة خبيثة وضيعة, و لكن غلى خلق خصومه الذين كان مرغما على مقارعتهم. ففي العصور الوسطى كان قانون الامم و عقد المعاهدات, و مجاملات الفروسية و شروط السلم الشريف, تفهم بطريقة ناقصة, و كثيرا ما تنتهك بعمد, و كانت معظم نقائص هذا الأمير العظيم, ترجع إلى أخلاق العصر المنحلة, و كانت بوادر خضوعه لأعدائه الألداء مظاهر فقط لسياسة محكمة التدبير, أقدم عليها لإحراز ملكه و توطيد سلطانه, و كان تقد الغزو المستمر يرهق مملكته, و لكنها كانت تغدو أقوى و يغدو الدفاع عنها أيسر, كلما انكمشت حدودها. و كان القشتاليون كلما احتلوا مدينة جديدة, هرعت منها جمهرة من المهاجرين العاملين إلى غرناطة, فتزيد سكانها كثرة على كثرة, يحملون معهم ثروات عظيمة, و صفات هي أثمن من الثروة لدولة منحلة: النشاط و الاقتصاد, و المقدرة على هضم الظروف الجديدة, و ذكرى المظالم السابقة, و آلام المطاردة المحزنة, و أمل الانتصاف, و شعور لا يقهر ببغض النصرانية. و كان الاندماج السياسي لهذه الجماعات المنفية المضطهدة, في حماية الجبال التي تظلل ملاذها الأخير, هو الذي عاون في حفظ مملكة غرناطة الزتهرة لمجدها المستقبل و محنتها الغامرة".

يوم فاتح يونيو 1932 و بحضور شخصيات سياسية و ثقافية غرناطية و بحضور الخليفة السلطاني المغربي مولاي الحسن بن المهدي أُزيلَ الستار عن التذكار الذي شيدته بلدية غرناطة على شرف مؤسس قصر الحمراء الملك محمد ابن الأحمر. و قد كتب ما جاء فيه الشاعر فرانثيسكو فيايسبيسا. و هذه ترجمة ما جاء في هذا التذكار التاريخي الذي مازالت نسخته إلى اليوم في مكانه في قصر الحمراء قرب باب الرمان Puerta de las Granadas حيث أن التذكار الأصلي قد دمرته إحدى الصواعق. 
اللوحة التذكارية اليوم


" إلى الأحمر, الفتى الأشهر في بيت آل نَصَر و مُشَيِّد الحمراء. لأنك تجاوزتَ حدود الزمان و المكان بإحراجِكَ كل محاسن الطبيعة من خلال إبداعكَ عجائب هذا القصر,  فطَوَّقت بالمجد و الخلود الجباه الربانية للمدينة الفريدة و المنقطعة النظير, تقبَّل تكريم غرناطة المفعم بالمشاعر و معه تقدير العالم و نحيب أبنائك المنفيين و الذين مازالوا في خلوات القفار يحلمون تحت ضوء النجوم بفردوس جنانكَ البهيجة.

"لا تَهَبْ مسبات الدهر و لا تقلبات القَدَر, فهِمَّتُك اللامتناهية تخلدت في إعجاز هذا المعمار. 

"قد تستمر ظِلال هذه الأسوار, لكن ذكراك ستدوم أبدية كملاذٍ وحيد ممكن للحلم و الفن.

"و حينها سيبني البلبلُ الأخيرُ الذي يُحلق فوق العالم عُشه و يشدو بتغريداته, كوداعٍ, بين أطلال الحمراء المجيدة". 

ف.فيايسبيسا.

مواضيع ذات صلة:

"الخليفة و الشاعر": رحلة الخليفة السلطاني المغربي إلى غرناطة عام 1932 و حضوره تكريم ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة




صلة الرحم بالأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق