الجمعة، 13 نوفمبر 2015

الأندلس في المغرب

الأندلس في المغرب

بقلم الأديب و الكاتب و الباحث الأردني عيسى الناعوري. نقلا عن مجلة مجمع اللغة العربية الأردني.
 
عيسى الناعوري
في عام 1974، وفي مؤتمر الدراسات الإسبانية/ الإسلامية في قرطبة، التقيتُ بالأستاذ المؤرخ والأديب المغربي عبدالله كَنّون، وكان بيننا حديث على الأندلس، وعلى روائع الفنون المعمارية والزخرفية فيه. وكنت أظن أن هذه الفنون قد جمدت على ما خَلَّفه عرب الأندلس في إسبانيا. غير أن الأستاذ كنّون أكّد لي أن هذه الفنون لم تَجمُد، بل هي تعيش الآن وتتطوّر في المغرب بأزهى وأحدث مما هي في الأندلس. ودهشتُ لذلك، وحَسِبتُ أنه من قبيل المفاخرة الوطنية.


ثم أتيح لي أن أزور المغرب عام 1976 بحثاً عن أثر الفنون الأندلسية هناك: من طراز معماري، ومن زخرفة ونقشٍ، ومن غناء وموسيقى ورقص. وقد قضيتُ في تلك الزيارة واحداً وعشرين يوماً، وتجوَّلتُ في المدن الرئيسية: من طنجة غرباً، إلى وَجدة شرقاً، وإلى مراكش جنوباً، وبينها زرتُ كذلك الرباط، ومكناس، وفاس، وتطوان. وفي كل مدينة قضيتُ يومين أو أكثر، أزور القصور والمساجد، والزوايا، والمقابر، والمدارس القديمة، والأسوار والقصبات. وذهلتُ فعلاً وأنا أعيش جوَّ الأندلس من جديد، ولكنْ بشكل أحدث وأكثر تطوّراً وأشدّ روعة.


كنت قبل زيارة المغرب أَحسَبُ أن فنون الزخرفة الأندلسيّة قد دخلت إلى الأندلس من المغرب، مع الفتح الإسلامي الذي دخل من المغرب، ولكنني تَيَقَّنتُ بعد زيارة المغرب من أن هذه الفنون المدهشة إنما دخلت إلى الأندلس مع الأمويين، الذين حملوها معهم من دمشق، بعد أن كانت دمشق قد أخذتها عن القاشاني الفارسي، وعن البيزنطيين، وطبعتها بطابَعٍ دمشقيّ خاص. ثم تطوَّرَتْ في إِسبانيا مع الأيام، ولم تدخل إلى المغرب إلا في عهد المرابطين، في القرن الحادي عشر الميلادي، الخامس الهجري، بعد أن ضَمَّ يوسف بن تاشفين الأندلس إلى المغرب، فأصبح البَلَدانِ بلداً واحداً. وبذلك احتضن المغربُ الفنونَ الأندلسيَّة منذ ذلك الحين. وحين خرج العرب من الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي هاربين إلى بُلدان المغرب، حملوا معهم فنونهم، وظلّوا يمارسونها هناك. ومذ ذاك راحت تتطوَّر مع الزمن إلى يومنا هذا.

والواقع أن الذي يريد دراسة الفنون الأندلسية كلها، ومنها الغناء، والرقص، والموسيقى، لا بُدَّ له من زيارة المغرب، والتجوّل في مختلف مُدُنه؛ فالأندلس تعيش هناك بأجمل ما في فنونها الرفيعة الخالدة.


وفي ما يلي أُدَوِّن ما شاهدته وأُعِجبْتُ به في عدد من أهمّ المدن المغربية مع شيء مما لا بدّ منه من الربط التاريخي:

-1- سَبْتَة وطَنجة
في الزاوية الشمالية الغربية من المملكة المغربية ومن القارة الإفريقية، وعلى شاطئ البحر المحيط والبحر المتوسط معاً، تقوم مدينة طنجة، وعلى مسافة قريبة منها إلى الشرق تقع مدينة سَبْتَة أيضاً. وبين المدينتين العريقتين ينتصب شامخاً جبل موسى – نسبةً إلى موسى بن نصير- ويقابله على العُدْوة الإسبانية، شاهقاً متغطرساً، جبل طارق. وكان هذان الجبلان والجبالُ العالية المتقابلة بينهما، وَمِن حولهما، تُدعى باسم (أعمدة هرقل). وهي تتقابل متمرِّدَةً على جانبَي ما كان يُدعى مِن قَبْلُ (بحر الزقاق) أو (بحر المجاز)، ويُدعَى اليوم (مضيق جبل طارق). وإنما كانت تسميته بالزقاق أو المجاز لضيقه، فهو ضَيّقٌ صغير، لا تزيد أبعدُ مسافة فيه بين العدوتين عن ثلاثة عشر كيلو متراً.

أما تسمية الجبال المتقابلة الجبّارة باسم (أعمدة هرقل) فلها أسطورة قديمة، تقول إِنَّ الأرض كانت مُتَّصلة بين المغرب وإسبانيا، وكانت تَفصِل بين مياه الأطلنطي والمتوسّط. ثم تَزَوَّجَ هرقل، وجاء بزوجته إلى طنجة. ولئلّا يتمكّن أحدٌ من الوصول إليها وسَلْبِه إياها، شَقَّ الأرض بين القارّتين، وأنشأ بينهما الزقاق المائي، واصِلاً الماءَ بالماء، وأقام الجبال الشاهقة حارسة على طرفي الماء؛ فدُعِيَت هذه الجبالُ المارِدة باسم (أعمدة هرقل).

وفي طنجة مغارة هائلة على البحر تُدعى (مغارة هرقل) حَفَرَتْها أمواجُ البحر القويّة التي ظلَّت تضرب أطراف الجبال قروناً لا حصر لها.


ويقف المرء على شاطئ طنجة وسبتة، فيرى البواخر والقوارب تَمخَر البحر غاديةً رائحة بين هاتين المدينتين ومُدن (قادس، وطريف، والجزيرة الخضراء، وجبل طارق، ومالقة) على العُدْوة الإسبانية. وحين يقف على سفح جبل موسى، بين سبتة وطنجة، وينظر إلى الشمال عبر بحر الزقاق، يَرُوعُه شموخُ صخرة جبل طارق، كأنما انشقَّ عنها البحر، فتمرَّدت شامخة فوق تيجانِ غيوم المتصاعدة من البحر.
 

من هذه البقعة انطلقت جيوش الفتح العربي الإسلامي لفتح بلاد إسبانيا، مبتدئةً عام 91هـ، 709م. وكانت هذه البقعة قبل الفتح الإسلامي للمغرب وخلال مُدَّةٍ من بدايته، ذاتَ صلة متينة بإسبانيا؛ فقد كانت سبتة في عهد عقبة بن نافع، ثم موسى بن نصير من بعده، في أيدي الإسبان، وكان يحكمها يوليان، الذي تعاون مع العرب على غزو إسبانيا لإنقاذها من حكم عَدُوِّه لذريق، ومهَّدَ لهم السبيل لفتحها؛ وسبتةُ اليوم يحكمها الإسبان، وكانوا إلى عام 1956 يحكمون الشمال المغربيَّ كلَّه، وجزءاً من الشاطئ الغربي، في حين كان الفرنسيون يحكمون بقيَّة المغرب.

وظلَّت سبتة وطنجة مَعْبَراً طبيعيّاً بين المغرب والأندلس، مثلما هما اليوم المَعْبَرُ بين البلدين: منهما عَبَرت سرايا طريف بن مالك، للاستكشاف أولاً، عام 91هـ. وعادت بالغنائم الوفيرة، وببشائر سهولة الفتح. ثم عَبَرت بعدها جيوش طارق بن زياد سنة 92 هـ. وتوغّلت في الجنوب الإسباني والغرب؛ ثم تلتها جيوش موسى بن نصير سنة 93هـ. لاستكمال فتح إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا.

ومن هذه البقعة أيضاً كان الأمويّون يدخلون أحياناً من الأندلس إلى المغرب، لمنع المغاربة من التدخُّلِ في شؤون الأندلس. ثُمَّ مِن هذه البقعة عينها دخَلَتْ فيما بعد جيوش المرابطين، بقيادة يوسف بن تاشفين، مَرَّتَين: مرةً لإنقاذ إِمارات الطوائف من غارات الجيوش الإسبانية، والمرّةُ الثانية لاحتلال الأندلس برّمتها وضَمِّها إلى المغرب. ومن هناك عادت الصلة التامّةُ بين المغرب والأندلس، وأصبحت هذه جُزءاً من المغرب، ودخَلَت فنونُ الأندلس إلى المغرب، واتّصلَت الحضارة بين البلدين فصارت واحدة. واستفاد المغرب من ذلك فائدة عظيمة، فقد كانت الأندلس متقِدّمةً عليه من حيث العلم والثقافة، وكان هو متقدِّماً عليها في القوة والسلاح، "فكان هو يبذل للأندلس حمايته – كما يقول الأستاذ عبدالله كنّون في الجزء الأول من كتابه (النبوغ المغربي) - والأندلس تبذل له ثقافتها ومعارفها". وحين استولى يوسف بن تاشفين على الأندلس، حملَ ملكَ إشبيلية، المعتمدَ بن عبّاد، أسيراً مكبّلاً بالقيود إلى طنجة، ومنها إلى فاس، ثم إلى أغمات - في الجنوب المغربي، قرب مراكش – حيث مات سجيناً ذليلاً.

لقد تأثَّرت طنجة، مثلما تأثَّر المغرب كلُّه، بحضارة الأندلس وظلَّ هذا الأثر إلى يومنا هذا بارزاً في العناية البالغة بالهندسة المعمارية، والزخارف والنقوش الأندلسية، والمُقَربَصات الرائعة البارزة في الجبص وفي الخشب- والمقربصات تعني (النقوش المجسَّمة النافرة) وهي مأخوذة من الكلمة اللاتينية  (CORPUS) التي تَعني (الجسم)؛ ويُخطئُ من يدعوها (المقرنسات) أو (المقرنصات)، فهي كلّها مُجَسَّمات نافرة.

وتعتمد الزخارف الأندلسية على قطع الزِّلِّيج الخزفية الصغيرة، ذات الألوان الجميلة الزاهية، ولا سيما اللون الأزرق واللون الأخضر، وذات الأشكال البارعة الصِناعة، كأوراق الشجر حيناً، أو بأشكال مربَّعةٍ أو مثلَّثةٍ أحياناً أخرى. وهي تُلْصَق إِلصاقاً على الجدران، وتُصْنَع منها صُوَرٌ وأشكالٌ فنّية غاية في الجمال والرهافة والدقّة. وقد تُغطَّى بها الجدران بأكملها، أو قد يُغَطَّى جزءٌ من الجدران إلى عُلُوٍّ معين.

وحين تَجَتمِع هذه الزخارف الخزفيّة إلى المُقَرْبَصات البارزة في السقوف الجبصيّة، أو في الخشب، ورفوف الأبواب الدقيقة الصناعة، تبدو فِتنةً للنظر وبَهجةً للقلب.

هذا الطراز من الزخارف الزِلِّيجية والمقربصات الجميلة ما يزال الإسبانُ إلى اليوم يحافظون عليه في متاحفهم، وقصورهم، وبيوتهم؛ غير أن الحفاظ عليه في المغرب أشدُّ وأعظم، وأكثرُ اتّساعاً: فقصورُ المغرب كلُّها، ومَساجِدهُ، وفنادقه، والكثيرُ من بيوته، هي قطع روائع من الفنّ الأندلسي الساحر.

في طنجة ذهبتُ لزيارة الصديق عبدالله كنّون في منزله في القصبة - وهي مدينة طنجة التاريخية القديمة- فراعني ما شاهدتُ في المنزل من جمال النقوش والزخارف الأندلسية: من مدخل الدار، إلى بَهْوها السفلي، إلى السُلَّم الصاعدة إلى الطابق الثاني، إلى ما رأيته من غرف المنزل، وطراز أثاثها. كلُّ شيء فيه أندلسي، حتى طراز الفراش، والستائر، والمقاعد الممدودة على الأرض، أو المرتفعة على مساطب مفروشة.

ومثل منزل عبدالله كنّون، بل أكثر زخرفة، كان كذلك الفندق المعروف باسم (فندق الريف)، ففي قاعاته آياتٌ باهراتٌ من هذه النقوش والزخارف الأندلسية.

وتنتقل من هناك لتتجوَّلَ في (القصبة) المطِلَّةِ على البحر، والمحاطةِ بالأسوار العالية، فتتخيَّل أنك في إحدى قصبات الأندلس؛ والقصبةُ كانت مِن قَبلُ مَقَرَّ الحاكم، وفيها دوائر الدولة، وثكنات الجيش، وفي طنجة ما تزال القصبة يبدو عليها القدم، في البيوت، والشوارع، إلا من بعض الأبنية الحديثة التي تكاد لا تبدو فيها. وأسوارُها شبيهة بأسوارٍ كثيرة ما تزالُ قائمة في العديد من المدن الأندلسية. والطراز واحد، والنتوآت المدبَّبَة في أعلى الأسوار والأبراج واحدة. ولا عجب في ذلك، فقد تعاقب على حُكْم الأندلس من المغاربة- من القرن الحادي عشر الميلادي إلى أواخر القرن الخامس عشر- المرابطون، والموحِّدون، والمَرينيُّون الذين في أواخر عهدهم خرج العرب نهائيّاً من الأندلس. وكلُّهم شيُّدوا القلاع والحصون والقصبات والقصور، وبنوا المساجد والأسوار، وأسّسوا المدارس في عُدْوَتَي بحر الزقاق. وكثيرٌ من هذه الآثار ما يزال قائماً إلى اليوم على الأرض المغربيّة والأرض الإسبانيّة.


وأما الغناء الأندلسي والموسيقى فما يزالان يعيشان كذلك في طنجة، وفي المغرب برّمته. والمغاربة يدعونه باسمه الحقيقي: (الغناء الأندلسي)، في حين يدعوه التونسيون والليبيون باسم آخر، هو (المألوف). والمغاربة يقيمون حفلات الغناء الأندلسي باستمرار في كلّ مكان من الأرض المغربية، باعتباره فنّاً لهم فيه حِصَّة، ولهم في بقائه نصيب؛ فهو لذلك بعضٌ من التراث الشعبي المغربي.

-2 الرباط

من طنجة ننحدر –مع الخريطة الجغرافية، لا مع التاريخ- جنوباً، لنصل إلى مدينة الرباط، عاصمة المملكة المغربية اليوم، وجارة مدينة (سلا) على شاطئ الأطلنطي، لا يفصل بينهما غير نهر ضحل المياه، قليل العرض، هو نهر (بورقراق). وفي (سلا) تُوُفّيَ الملك عبدالمؤمن، أول ملوك الموحِّدين.
  


وقبل أن أبدأ الحديث على الرباط، أرى أن أذكر أن جارتها (سلا) مدينةٌ أندلسية ، بمعنى أنَّ سُكّانها من أصل أندلسي، نزحوا من الأندلس فعمروها، وأقاموا يمارسون فيها أساليب حياتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وصناعاتهم الأندلسية، مثلما فعل إخوانٌ لهم خرجوا من الأندلس، وأنشأوا مدينة تطوان، وبعض المدن المغربية الأخرى؛ وكانت سلا من قبل مدينة رومانية عريقة. فهي من المدن المغربية القديمة.

ولكّنني لن أقفَ طويلاً عند مدينة سلا، وقد زُرْتُها وتجوَّلْتُ فيها، فلم أجد فيها من مظاهر الفنون الأندلسية إلا القليل الذي لا يستحقّ الوقوف عنده، بالنسبة إلى ما شاهَدْتُه في المدن الأخرى الكبيرة.


وأما مدينة الرباط، أو "رباط الفتح"، كما كان اسمها، فتزخر بالكثير جدّاً من مظاهر الفنون الأندلسية بشكل يسترعي النظر، ويستوقف الزائر للتأمل والإعجاب.

هذه المدينة بناها سلطان الموحِّدين الأشهر يعقوب المنصور، سنة 1198م، 593هـ، وأنشأ فيها مسجد حَسَّان وصومَعَتَه – مئذنته- أخت مئذنة (الكُتُبِيَّة) في مراكش، ومئذنةِ (الخيرالدا) في إشبيلية، بالأندلس، وكلُّها من أعماله الخالدة. وأما مسجد حسّان فقد دَرَس، ولم يبق منه اليوم غير أنصافِ أعمدةٍ مزروعة في الأرض، يقوم بينها جزءٌ من المئذنة يَستدعي الإشفاق حين يتذكَّرُ المرءُ أن شقيقتَيها في مراكش وإشبيلية لا تزالان قائمتين تتحدّيان الزمان. ويُقال إن المئذنة لم تكمل، مثلما كملت شقيقتاها.

وفي الطرف الغربي من المدينة تقوم (قصبة الاوداية)؛ وهي أختٌ لقصبات عديدة مثلها في الطراز، باقيةٍ إلى اليوم في الأندلس، تشابهها في البناء الداخلي، وفي الأسوار، وفي كلّ شيء. وكان قد أنشأها ملك الموحِّدين الأوَّل عبدالمؤمن بن علي سنة 1150م. وهي أصل مدينة الرباط.

وفي جهة أخرى من المدينة تقوم بقايا مدينةٍ رومانية تُدعى (شيلا)، وقد اتّخذها ملوك المَرينِيّين مَقبرةً لهم، وأحاطوها بأسوار عالية، وأقاموا فيها مسجداً ومئذنة. وكلّها ما تزال قائمة هناك إلى اليوم.

ولم تصبح الرباط عاصمة للمغرب إلّا في عهد الأسرة العَلَويّة التي تحكم المغرب منذ زمن مولاي رشيد، في القرن السابع عشر الميلادي – وكانت في أول عهدهم مَقَرّاً مؤقتاً لملوكهم، ثم تحوَّلَت إلى عاصمة رسمية لهم في زمن الملك يوسف، والد الملك محمد الخامس، وَجَدِّ الملك الحسن الثاني. وكانت عاصمتُهم مِن قَبلُ هي مدينة فاس، أو مدينة مراكش. وقبل ذلك كانت مدنٌ أخرى عواصم للمغرب، فالعاصمة هي (وِليلي) مَرّة، وحيناً مراكش، وحيناً آخر مكناس، أو فاس. وأحياناً كانت المدينةُ الواحدة تتحوَّل مِراراً إلى عاصمة، مثل مدينة فاس، ومدينة مراكش.

ولقد تَقَلَّبت على المغرب كلِّه حكوماتٌ متعددة: مِن عهد إدريس الأول، حفيد الرسول، الذي لجأ إلى المغرب في القرن الثامن للميلادي، هرباً من بطش هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، وأسَّسَ هناك الدولة الإدريسيّة، أول مملكة مغربية  إسلامية، وقد استمر حكمها نحو قرنين من الزمن. ثم قامت الدولة الفاطمية، فدولة المرابطين، فالموحدين، فالمَرينيين، فالوَطَّاسيين، فالسعديين، وأخيراً الدولة العلوية الحاكمة إلى اليوم. وعَرَفَ المغربُ الحكم الأجنبي فترة من تاريخه الحديث، وكان حُكماً استعماريّاً مزدوجاً: فهو إسبانيٌّ في الشمال والغرب، وفرنسيٌّ في الوسط كلّه، إلى أن جلا الاستعمار المزدوج في عهد الملك محمد الخامس، ثم في عهد ابنه الحسن الثاني، ملك المغرب اليوم. ولم يبقَ من المغرب في أيدي الإسبان غير مدينتي سبتة ومليليا، في الشمال المغربي، على ساحل البحر المتوسط، وذلك بعد أن خرج الإسبان أخيراً من الصحراء المغربية، على الساحل الجنوبي الغربي.

وكان المرابطون، وَمِن بَعْدهم الموحِّدون، ثم المَرينيّون قد حكموا الأندلس، وجعلوا منها جزءاً من دولة المغرب. وفي أواخر العهد المرينيّ وبدايةِ العهد الوَطّاسي خَرَجَ العرب من الأندلس، فكان من الطَبَعيّ جداً أن يلجأوا إلى الشمال الإفريقي، ويُنشئوا فيه مُدناً وقرى، كان منها في الشمال تِلمسان وتَطوان، وفي الوسط سلا- وتلمسان اليوم من الجزائر-.

هذا من الجانب التاريخي الذي يربط بين المغرب والأندلس، ومن حيث الآثار العديدة الباقية اليوم في مدينة الرباط، مِمّا له أشباهٌ كثيرة في الأندلس.

أمّا الطراز الأندلسي في البناء والزخرفة، فإن في الرباط منه الكثير ممّا يُدهش النظر ويُبهج النفس، وأنت حين تصل إلى مئذنة حسّان، تجد إلى جانبها، وعند طَرَف الأعمدة الباقية من جامع حسّان، بناءً من أفخم الأبنية وأبهاها، هو ضريح الملك محمد الخامس، وإلى جانبه مسجد محمد الخامس كذلك. والبناآن آيتان من آيات الصناعة الأندلسية الحيّة المتطورة في المغرب؛ وأدعاهما إلى الدهشة والانبهار بجمال صناعته الأندلسية هو الضريح ذو الطابقين، بِقُبَّتِه العالية المذهبة، وجدرانه التي تَفَنَّنَ فيها الصُنّاع حتى لم يَبْقَ بعد فَنِّهم فنٌّ في زخارف الزِلّيج والمقربصات الرائعة. وأنت تقف تحت قُبَّتِه، وتحتار في تلك الصناعة العجيبة التي لم تَعْرِف عصورُ الأندلس لها مثيلاً، حتى في قصر الحمراء، وقصر جَنَّة العريف، وجامع قُرطبة، وقصر إشبيلية –وكلُّها من عجائب الدنيا في جمال الصناعة الزخرفية والهندسية الأندلسية-.

والجديد في ضريح محمد الخامس هو إدخال الذهب في الطراز الأندلسي بأشكال لم تعرفها زخارف الأندلس من قبل، وبكثرة تَخْلب النظر؛ وكذلك التفَنُّن في الأُشكال الزخرفية الأُخرى غير المألوفة كذلك. وتُحِسُّ وأنت في داخل الضريح، ثُمَّ في المسجد مِن بَعده، بأنك تودُّ لو تُطيل البقاء، مستمتعاً بروعة الصناعة وجمال  الفن.

وتستعيد في خيالك كلَّ قصور الأندلس ومساجدها ومآذنها، فتحسُّ بعظمة الأندلسيين الذي خَلَقوا هذه الفنون المدهشة: من دقَّة القِطَع الزلّيجية الصغيرة، ورهافة الفن في ترصيعها، وجمال النقوش المصنوعة منها، ومن رهافة المقربصات الجبصية والخشبية التي خَلَقَتْها عبقريّةُ الفنان الأندلسي. ثم يأخذك العجب من بقاء هذه الصناعة العجيبة مزدهرة، ومن تَطَوُّرها وتحديثها في مدن المغرب كلّها إلى اليوم، وحفاظ المغرب على أن تظلَّ الأندلسُ حَيَّةً فيه، لا يمحو جمالها الزمان، بهندستها المعمارية، وزخارفها ونقوشها ومقربصاتها، وكذلك بموسيقاها، وغنائها ورقصها. 

وَتخْرُج من  الضريح والجامع للتجوُّل في أنحاء الرباط، فتدهشك القصور الملكية، بزلّيجها الأخضر الجميل في السطوح، وفي الجدران الخارجية، وفي ظُلَلِ الحدائق الفسيحة: قصر المَشْوَر، وقصر السلام، والقصر القديم الذي بناه محمد بن عبدالله العلوي. وهذه القصور الملكيّة تُحَفٌ روائع من الصناعة الأندلسية الطراز، تَفَنَّنَ فيها الصُنَّاع المغاربةُ فأبدعوا غاية الإبداع.

ثُمَّ تمضي إلى جامع السُنَّة، وجامع مولاي يوسف، وهما متقاربان في المكان، فتقف متأمِّلاً جمال الزلّيج الأخضر الذي يُغطّي سطوحهما. وتمضي إلى الداخل، فتُدهِشُك البساطة الأنيقة في رهافة الصناعة الأندلسية – وللبساطة جمالُها أيضاً متى كانت من صُنع يَدٍ فنّانةٍ بارعة-.

ولا يقتصر الطراز الأندلسي على الجوامع والقصور، بل تَجِدُه كذلك في بعض الفنادق، وأخُصُّ بالذكر (فندق حسّان)، في وسط المدينة؛ وهو تحفة فنية رائعة من الداخل، بجمال الصناعة الزخرفية الأندلسية، التي تستريح إليها النفس، ويستريح النظر.


-3 مراكش

 ونمضي مع خريطة المغرب انحداراً إلى الجنوب، حتى نصل إلى مراكش، مدينة النخيل، أو المدينة الحمراء، كما تُدْعَى أحياناً.

 

وهي تُدعَى كذلك لأنَّ لون بيوتها الخارجي أحمر، بعكس مدن المغرب الأُخرى وقراه، وكلُّها تقريباً مطليَّةٌ من الخارج باللون الأبيض- ومِثلُها كذلك الجزائر وتونس وليبيا- وتَكْثُر في المدينة وَمِن حَولها أشجارُ النخيل الجميلة. وبيوتُها صغيرة وقليلة الطوابق.
هذه المدينة بناها أميرُ المرابطين يوسف بن تاشفين سنة 454هـ، 1062م. واتّخذها عاصمةً لدولته بَدَلاً من العاصمة فاس. ومِنْ بَعْدُ ظلّت مراكش عاصمةً للموحّدين، ثم كانت عاصمةً كذلك للسعديين في القرن السادس عشر للميلاد، العاشر للهجرة. واتّخذها ملوك العلويين الأولون كذلك عاصمةً لهم، إلى أن انتقلت العاصمة إلى الرباط في عهد مولاي يوسف، والد محمد الخامس، وَجَدّ الحسن الثاني. وقد تَرَكَتْ كلُّ واحدة من هذه الدول المغربية آثاراً من آثارها في هذه المدينة العريقة.

وجدير بالذكر أنَّ معظم أعلام الفلسفة والطبّ من الأندلسيين، من عهد المرابطين إلى أواخر عهد المرينيين خاصة، قد انتقلوا من الأندلس ليقيموا في مراكش أو فاس، في رعاية ملوك هذه الدول الثلاث وأمرائها. وفي ذلك يقول عبدالله كنّون في كتابه (النبوغ المغربي): "فأبو بكر بن باجة، المعروف بابن الصايغ، والفيلسوف والطبيب والموسيقي، هو ممن أظلَّتهم دولةُ المرابطين، وخَدَمَ رجالها بعلمه وفنه؛ وأبو الوليد ابن رشد، وأبو بكر ابن طُفَيل، وأبناء زهر، هُم ممًّن نبغوا في أعقاب عصر المرابطين، وانتشرت معارفهم في العصر الموحّدي الذي يليه. وأعلامُ الفقه والتصوف، مثل ابن رشد الكبير، وأبي بكر ابن العربي، وابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، هم من رجال عصر المرابطين أو عصر الموحِّدين".

وفي مراكش ضريح بسيط متواضع ليوسف بن تاشفين، على مقربة من جامع الكتبية، أُقيمَ في عهد الملك محمد الخامس فقط، في حين يقوم ضريح خصمه وأسيره الشاعر الإشبيلي المعتمد بن عبّاد غيرَ بعيد عنه، في أغمات، في فخامةٍ لا يعرفها ضريح ابن تاشفين.

وكانت أغمات عاصمة المرابطين قبل أن يبني يوسف بن تاشفين مدينة مراكش.
وجدير بنا أن نشير ههنا إلى أن ابن تاشفين كان قد دخل إلى الأندلس بجيوشه مَرَّتين في القرن الحادي عشر الميلادي، الخامس الهجري، الأولى لصد غارات الجيوش الإسبانية عن ممالك الأندلس، ولا سيّما عن مملكة إشبيلية التي كان يحكمها المعتمد بن عبّاد، والثانية بَعْدَها بقليل، لكي يَضُمَّ الأندلس إلى المغرب، ويبسط سلطانه على العُدْوَتين. وفي هذه المرة الثانية ساقَ المعتمدَ مكبَّلاً بالقيود إلى طنجة، ومنها إلى فاس، ثم إلى أغمات، حيث مات المعتمد في ذلّة الأسر، وخَلَّف لزوجته وبناته مذلّةَ التشرّد والفاقة. ثم ماتت زوجته ودُفِنَت إلى جانبه.
ويتألف مبنى ضريح ابن عبّاد من مدخل، تقوم إلى يساره غرفةٌ فيها سِجِلٌّ للزائرين. ويُفضي المدخل إلى باحةٍ مكشوفة، ثم إلى غرفة فيها قبرُ ابن عبّاد وقبرُ زوجته إلى جانبه. وعلى الجدار الأيمن والجدار الأيسر أبياتٌ نظمها الشاعر الوزير لسان الدين بن الخطيب حين زار قبر المعتمد. وهذه أبيات منها:

قبرَ الغريبِ، سَقاك الرائحُ الغادي


كفاك فارفُقْ بما استُودِعْتَ مِن كَرَمٍ
 
ولا تَزَلْ صلواتُ اللهِ دائمةً

حقّاً ظَفِرتَ بأشلاءِ ابنِ عَبّادِ


    رَوَّاكَ كلُّ قَطوبِ البَرقِ رعَّادِ


على دَفينِك، لا تُحصَى بِتَعدادِ
 وكان ابنُ الخطيب قد رثى ابن عبّاد بأبياتٍ أخرى حينما وقف على قبره، فقال:

قد زرتُ قبرَك عَن طوعٍ بأَغماتِ


لِمْ لا أزورُك يا أَنْدَى الملوكِ يداً


وأنتَ مَن لَو تَخَطَّى الدهرُ مَصْرَعَهُ

رأيتُ ذلك من أولى المهمّاتِ


ويا سِراجَ الليالي المدلَهِمَّاتِ؟


إلى زماني، لجادتْ فيه أبياتي
لكأنما شاءت الأقدارُ أن تُقارِبَ بين ضريح السلطان الغالب، والملك الشاعر المغلوب، الذي كان له من دنياه السلطان والشعر معاً، فَخَلَدَ بالشعر، وظلَّ أغرودةً في فم الزمان، وظلَّ قبرُه محجَّةً للزوّار ممَّن يَعشقون الفنّ والشعر. وَبِجَمْع الضريحين المتقاربين، اجتمعَ المغربُ والأندلسُ اجتماعاً أبديّاً، كان الضريحان رمزاً خالداً له وعنواناً.

وإلى جانب ذلك يجتمع المغرب والأندلس في آثار أخرى باقية في مراكش، لَعَلَّ أهمَّها جامعُ الكتبيّة ومئذنَتُه – أو صَومعته- أخت مئذنة إشبيلية الشهيرة باسم(الخيرالدا)، ومئذنة حسّان في الرباط.

تمتاز مئذنة الكتبية ومئذنتا الخيرالدا وحسّان، بأنُّ الصعود إليها ليس على سلالم، بل في طريقٍ عريضة مُتَلَوّيَة، تنتهي كلُّ دَورة منها بِشُرُفات من جميع الجوانب، تُطِلُّ على المدينة؛ حتى إذا بلغ الصاعدُ أعلى المئذنة، وأطلَّ من شرفاتها، انبسطت تحتَ عينيه المدينةُ كلُّها كما تنبسط راحة اليد. ويُقال إِن المنصورَ قد أراد مِن بنائهما بهذا الشكل أن يكون في وُسعه الصعودُ إلى أعلى المئذنة على صَهوة جواده. هذه المِيْزَةُ هي أهمُّ ما يجمع بين المآذن الثلاث. وأما أحجامها فمختلفات: فالخيرالدا يبلغ عُلوُّها أكثرَ من خمسة وسبعين متراً، وعلوُّ الكتبيةِ اثنان وستون متراً، ولا أدري كم كان ارتفاع مئذنة حسان، في الرباط، فهي الآن بَقِيَّةُ مئذنة فقط؛ أما من حيث الشكل الخارجيّ فإن الخيرالدا، في إشبيلية، تُحفَةٌ رائعة من آيات الفنّ المعماري، لا تضاهيها في ذلك مئذنة الكتبية. وقد أقيمت هذه المآذن الثلاث في القرن الثاني عشر الميلادي، السادس الهجري.

وليس في وسعي أن أُطيلَ الحديث على سائر الآثار المراكشية، فهي كثيرة جدّاً وكلُّها جدير بوقفات طوال مُشْبِعات. غير أنني أكتفي بذكرها فقط، ومنها: مقابُر السعديّين، وفي وسطها قبرُ أحمد المنصور الذهبي، أعظم ملوك السعديين وأبعدُهم شهرة، وهي من القرن السادس عشر، وفيها الكثير من أثر الصناعة الأندلسية. وهناك قصر (دار الهناء) وحدائقُ الأُوكدال الفسيحة الواسعة الأرجاء، وقد أنشأها الملك محمد بن عبدالله العَلَويّ. وفي هذه الحدائق غابات من شجر الزيتون، وَبِرْكَتان كبيرتان هائلتا الاتساع، في وسط إحداهما مكانٌ لجلوس جوقةٍ موسيقية وغنائية؛ فهي بذلك شبيهة بِبِرْكة القيروان في تونس. وهنالك أيضاً قصرُ البديع، الذي بناه أحمد المنصور الذهبي، مِن ملوك السعديين، في القرن السادس عشر.

وأما أقدمُ أثر مغربي يبدو فيه الطابع الأندلسي، في المغرب كلّه، فهو المدرسة اليوسفيّة، في مراكش؛ وكان قد بناها الأمير عليّ بن يوسف بن تاشفين، ودعاها باسم أبيه. وكل ما في هذه المدرسة أندلسيُّ الطراز، سواءٌ في هندسة البناء، أم في المُقَرْبصات الخشبيّة السوداء؛ وهذه أوَّلُ مدرسة أندلسية الطراز شاهدتُها في حياتي، ولم أَرَ مِن قبلُ مثلها في الأندلس. أما المغرب فتكثر فيه هذه المدارس، وكثير منها مما أنشأه الملك أبو عنان المَرِيني، وتُدَعى مدارسه كلها باسمه: (المدرسة البوعنانيّة). وقد شاهدتُ من المدارس البوعنانية ثلاثاً: في سلا، وفاس، ومكناس؛ وهي وسواها من المدارس القديمة متشابهةٌ في طرازها، وغُرَفُ الطلاّب فيها أشبه بالزنزانات، وكُلُّها تُطِلُّ على بهو أوسط مفتوح، وتقوم في الطابق الثاني من المدرسة.

 

وأما الزخارفُ الأندلسيَّةُ المدهشة فيجدها الزائر في قصر (الجلاوي باشا)، المهجور الآن، بكلِّ ما كان فيه من أثاث ورياش فاخرة، كلُّ أقمشتها من الدِمَقْس الحُرّ. وكذلك في (قصر الباهية) ذي الحدائق الأنيقة، بطرازها الأندلسيّ الجميل الممتع. في هذين القصرين يعود المرء بخياله إلى الأندلس، ويعيش في جوٍّ أندلسيّ صرف، ولكنّه جوٌّ أندلسي حديث متجدد.


-4-مدينة فاس

يا فاسُ، يا جَنَّةَ الآمال باسمةً
ما زال جامِعُكِ المعمور مَفخرةً

وجنّةَ المغرب الأَقصى لمِا رَحُبا
للضاد، طَوَّقَ طَوْقَ المِنَّةِ الحِقَبا
(محمد الجبوري)

وتنطلق من مراكش مصعِّداً في الأطلس الأوسط نحو الشمال، حتى تصلَ إلى مدينتين عريقتين، هما مكناس وفاس. ولكليهما تاريخ طويل مجيد من تاريخ المغرب السياسيّ والفكريّ، وَصِلاتٌ متينة بالأندلس وعرب الأندلس في  القديم، وبفنون الأندلس في العصر الحاضر.

ولستُ أقف طويلاً عند مدينة مكناس، بل أكتفي منها بذكر القليل من آثارها الباقية، وأهمُّها: قصر إسماعيل بن علي بن الشريف، رأس الأُسرة العلوية، ومَسجِدُه الأُندلسيّ الطراز، ذو الألوان الجميلة الشبيهة بألوان قصر إشبيلية؛ وكذلك المدرسةُ البوعنانية؛ وهي إحدى المدارس التي أنشأها أبو عنان ابن أبي الحسن المَرِينيّ. ويضاف إليها قصرُ الجامعيّ، الأندلسيُّ الجميل.

وأمّا مدينة فاس فيرجع تاريخ بنائها إلى الملك إدريس الثاني، ابن الإمام إدريس الأول؛ فهو الذي وضع حجر الأساس للمدينة في غرَّة ربيع الأول عام 192هـ، الرابع من يناير 808م. ثم نَقَل إليها عاصمة ملكه من مدينة (وِليلى) أو (فولوبوليس) التي كانت عاصمة أبيه. وسَرعان ما توافد عليه العرب من إِفريقية (تونس) ومن الأندلس: فجاءه خمسمئة فارس من إفريقية، ومئات من الأسر الأندلسية. فَجَعل المدينة قسمين، دعا أحدهما (عدوة الأندلس) – وهي القسم الشرقيّ من المدينة – وأَنزَل فيه الأُسَر القادمة من الأندلس، ودعا القسم الثاني (عدوة القرويين) - وهي القسم الغربيّ- وقد اتّخذ منه الملك إدريس مَقَرّاً له.


وظلت فاس عاصمة الدولة الإدريسية، التي قامت في المغرب على يد الإمام إدريس الأول، بعد هربه من المشرق خوفاً من بطش الرشيد به. غير أنَّ البطش لحق به إلى المغرب، فمات مسموماً في عاصمته (وليلى) على يد الشماخ، بتدبير من هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي. ولما قامت دولة المرابطين في القرن الحادي عشر الميلادي، الخامس الهجري، انتقلت العاصمة من فاس إلى مراكش، التي بناها يوسف بن تاشفين. ولما جاء المَرِينيّون في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، نَقلوا العاصمة من مراكش إلى فاس من جديد، وأضافوا إلى المدينة قسماً دعوه (فاس الجديدة) وأحاطوه بالأسوار، كما كانت المدينة القديمة محاطة بالأسوار أيضاً. وظَلَّت فاس عاصمةً للمغرب بعد ذلك في عهد الوَطّاسيّين ودولتهم القصيرة العمر.

وكَثُر نزوحُ الأندلسيّين إلى فاس، وقد حَمَلوا معهم مظاهر حضارتهم  وفنونهم، فكان لذلك أثره الكبيرُ جدّاً في التقدُّم الفكريّ والحضاريّ الذي عرفته فاس. وَمِمَّن وَفَدوا عليها ومارسوا علومهم وفنونهم فيها: الطبيب والعالم عبدالملك ابن زهر، والفيلسوف ابن رشد، والوزير الشاعر لسان الدين بن الخطيب، والكاتب جُزَيّ بن عبدالله الغرناطي، والوزير الشاعر ابن زمرك، وغيرهم، وكلُّهم عملوا في المغرب في عهد المرابطين أو الموحِّدين أو المِرينيّين. والمؤلم حقّاً أنَّ كلَّ واحد  من هؤلاء الأعلام قد رُمِيَ بتهمة الإلحاد والزندقة، وبعضُهم مات حرقاً، أو مات مسموماً. ولا يزال قبر لسان الدين بن الخطيب بارزاً أَثَرُه خارج أسوار مدينة فاس.

وما تُذْكَر مدينة فاس إلا ذُكِرَ معها جامع القرويين، وكان دائماً في المغرب صنو الأزهر في مصر، وفيه تَخَرَّج كبارُ علماء البلاد المغربية على توالي العصور إلى يومنا هذا، وقد تَحَوَّل اليوم إلى جامعة عصرية. وهذا الجامع أنشأتْه في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، السيدةُ فاطمة أمّ البنين الفِهْريّة، من مهاجرات القيروان. ولم يلبث الجامع أن أصبح جامعة، هي أقدم جامعات العالم على الإطلاق، وأصبح مصدر إِشعاع فكريّ إسلامي غَمَرَ بلدانَ المغرب والأندلس، وتوافَدَ عليه العلماءُ وطُلّاب العلم من كل صوب. وبجامع القرويين صارت فاس عاصمةَ المغرب العلميّة إلى اليوم. وهو أول جامع تقيمه سيّدة مسلمة في العالم الإسلامي كلّه؛ وكُلُّ الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ ذلك الحين كانت تتبارى في دعم القرويين، وإِغداق المال عليه، وإِجراء التوسُّعات التي يتطلّبها، وتوفير العلماء له، (والمدارس) العديدة لإيواء طلّابه وتدريسهم.

 
أَمّا أثر الأندلس في القرويين فُنطالعُه في كلِّ مكان من هذا الجامع العريق: ففي المحراب نرى الطرازَ الأندلسيّ يُزَخِرفه زَخرفَةً بديعة؛ وفي صحن الجامع تُدهِشُنا قِطَع الزِلّيج – أو الخزف الصغير الملَّون- البديعة الألوان تُغطي الأرضيَّة كلَّها، وتزخرف المِيضَأَة الجميلة، والجُدران جميعَها. وَمِن فوقِ زِلّيج الجدران والأرضية تتدلّى  المُقَرْبَصات والنقوش الجِبصيَّة والخشبيَّة المدهشة، تَفَنَّنَت فيها أيدي الصُنّاع الفاسيّين الذي أخذوها في الأصل عن الأندلسيين، ومضت تبدع فيها ما شاء لها الإبداع. وعلى طرَفَي الصحن تقوم ظُلَّتان –سقيفتان- جميلتان، تُزَيِّنُهما السقوف الخشبية البديعة في نصفهما الأعلى، والأَعمِدةُ الرفيعة الدقيقة من أسفلهما، والزلّيج الأخضر البهيج في سطوحهما. وعلى الجدران قِطَعٌ صغيرة من الفيسفساء الزِلّيجية البهيّة الألوان.

وعلى مقربة من الجامع عِدَّةُ مدارس قديمة، أندلسيةِ الطراز، نَذكر منها: البوعنانية، ومدرسة النّجارين، والعطّارين، والصَفّارين؛ وهذه كلُّها من العهد المِرينيّ في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وهنالك أيضاً مدرسة الشَرَّاطين، وهي من عهد الأسرة العَلَوية. وكلُّ هذه المدارس وسواها من المدارس القديمة في مختلف مدن المغرب هي من طراز المدارس التي نشأت في الأندلس من قبل، والتي جَعَلَت من الأندلس منارةَ علمٍ وحضارةٍ قَبْلَ أن تقوم النهضة الحديثة في أوروبا.

وتَتَجلَّى الصناعةُ الأندلسية في كل مكان من مدينة فاس: في المساجد، والزاويا، وفي المدارس، والأضرحة. ومن أهَمِّ الزوايا في فاس زاويةُ مولاي إدريس، مؤسس المدينة؛ ويتبدّى جمالها في زلّيخ سطوحها وأَفاريزِها، وزخارف جدرانها وأرضّيتها.

غير أن أحدثَ الأعمال الزخرفية الجميلة المتطوِّرَة يَبْهَرُ الزائر في (فندق قصر الجامعي)، وهو فندقٌ كبير حديث، نِصفُه كان قصراً قديماً من القرن التاسع عشر لأحد كبار أغنياء المغرب يُدعى (الجامعي) - وله قصور أخرى في مكناس وبعض المدن المغربيّة الأخرى- ثم أضيفت إليه أجنحةٌ حديثة، واستُغِلَّت حدائقه الفسيحة، وَزُيِّنَ بالنقوش والزخارف الأندلسية المُحْدَثَة، فجاء قطعةً مدهشة من جَنَّة الأندلس، يَعِزُّ مثيلها في قصور غرناطة وإشبيلية؛ وفي فسحاته الواسعة، حَوْل بِرْكة الماء الكبيرة في حدائقه، تُقام حفلات الغناء والرقص والموسيقى الأندلسية، فيعيش الساهرون في جوٍّ أندلسيّ خالص، وفي مُتعةٍ للعين والنفس لذيذةٍ حالمة.
 

 لقد امتزج تاريخُ فاس: تاريخ الأندلس في أشياء كثيرة: امتزج بالأُسَر الأندلسيّة العديدة التي نَزَحت إلى المدينة منذ إنشائها؛ وامتزج بفنون الهندسة العمرانية والنقش والزخرفة؛ وامتزج في رحاب جامع القرويين، أساتذةً وطُلاباً وزُوّاراً؛ وامتزج في قصور الملوك والحُكّام بمن وفد عليهم من أعلام الأدب والشعر والفِقْه والعلم من الأندلسيين، ولا سيما في عهد المَرِينيّين وسُلطانهم الأشهر أبي عنان. وقد ذَكَرنا في ما تَقَدَّم أسماءَ بعض هؤلاء الأعلام.

وهناك مظاهر أخرى كثيرة من امتزاج الأندلس بمدينة فاس، نَجِدُ بعضها في الطُرُقات الضيّقة التي تسير في وسط المتاجر المصطفَّة على الجانبين، لتُبرز أعمال النَسّاجين والصاغة والصُنّاع الفاسيين البارعةَ الجميلة. ونَجِد بعضها كذلك في طراز الأَسوار ذات النُتوءات المُدَبَّبة.

والوقع أن مدينة فاس من أكثر المدن المغربية تأثُراً بالأندلس وبفنون الأندلس، وَمِن أكثرها احتضاناً لفنون النقش والزخرفة والبناء الأندلسية.

-5-تَطْوان

تقوم مدينة تطوان – أو المدينة البيضاء، كما تُدْعَى أيضاً- على سفح تل (دَرْسَة) إلى الجنوب من سَبْتَة. وَمِن حَوْلها يَسقي وادي الحلو- ويُدعى أيضاً وادي مَرْتَل- بساتينها الجميلة المحيطة بها. وقد بَنَى هذه المدينةَ المهاجرون الذين جاؤوا من غرناطة في أيامها الأخيرة، وعلى رأسهم أبو الحسن المنظري. ثم لَحِقَ بهم غيرُهم ممن اضطُرّوا إلى النزوح عن الأندلس. وقد حافَظَت هذه الأُسَر النازحة على أُسلوب حياتها الأندلسية، بحيث  يُخَيَّل إليك، وأنت تدخل إلى تطوان، أنك تَدخُل إلى مدينة أندلسية. والواقع أنني هناك رَجَعَ بي الخيال إلى مدينة (رُنْدَة) في الجنوب الأندلسي، بشكل خاصّ، وشَعَرْتُ بأنني قد عُدتُ إليها من جديد – وكان عهدي بزيارة رُنْدَة قريباً-.

وتَطوان هي العاصمة العلميَّة في الشمال المغربي، واللغةُ الأجنبية التي يتكلم بها التطوانيون هي الإسبانية، وبيوتُها تَعْكِس جمال الطراز العمرانيّ والهندسيّ الأندلسيّ.

وقبل أن أمضي في الحديث على المدينة وطابَعِها الأندلسي، أوَدُّ أن أذكر أنني حرصتُ هناك على زيارة مؤرخِ تطوان وشيخ علمائها، الأستاذ الحاج محمد داود، صاحب (تاريخ تطوان)، الذي يقع في أربعةَ عشر مجلّداً ضخماً، سِتَّةٌ منها مطبوعة، والثمانية الأخرى تنتظر الطبع، يُضاف إليها أربعةُ مجلدات ضخمة أخرى بعنوان (عائلات تطوان)، مِمّا يصل بتاريخ تَطوان إلى ثمانية عشر مجلَّداً، أطلعني عليها الأستاذ محمد داود في تلك الزيارة.

إن روح الأندلس ما تزال تعيش مع الحاج محمد داود، مُتَحدِّرَةً إليه من أجداده الذين نَزحوا عن غرناطة. ومَنزلُه قطعةٌ فَنّيّة من الأندلس: بتنظيمه الهندسي، وبنقوشه وزخارفه، وَفُرُشه وأثاثه، وجدرانه وسقوفه؛ ولأوّل مرة، وفي منزل الحاج محمد داود، رأيت طراز المخادع الأندلسية: بالسرير العالي، والستائر المصنوعة من الدِمَقْس الأصليّ الجميل، ورأيتُ كيف يكون (البيت الأندلسي) بفراشه على سَطيحةٍ مرتفعة عن الأرض، وَبِمَسانِدِه المستديرة الطويلة المغطّاة بقماش حريريّ زاهي الألوان. كلُّ ما في منزل الحاج  محمد داود يَنقُلُك إلى الأندلس، فتعيش مع التاريخ الزاهي العزيز الذي مضى.

ومثل منزل الحاج محمد داود كذلك منازل عديدة أخرى، أهلُها كُلُّهم من أبناء المهاجرين الأندلسيين، ولم يستطيعوا التخلّي عن أسلوب الحياة الأندلسيّة. وقد زرتُ من هذه المنازل منزل عبدالسلام الصَفّار، مدير مدرسة الفضيلة للبنات، كما زرتُ مدرسَتَه أيضاً، فرأيتُ في كليهما ما يُبهج النفس والنظر من روعة الطراز الأندلسيّ في كلّ شيء.

حتى الساحاتُ والحدائقُ العامة في وسط المدينة، مِن مِثْل ساحة الحسن الثاني، وحديقة (روعة  العُشّاق)، هي أيضاً قِطعٌ من جِنان الأندلس وساحاته العربيّة القديمة. وحين تَدْخُل إلى حديقة (روضة العُشّاق) تجد في وسطها ظُلَّةً – سقيفة- جميلة لجلوس المتنزّهين، سَطحُها من الزِلّيج الجميل المألوف جدّاً في الأندلس والمغرب. وعلى مقربة منها بِرْكَة صغيرة مستطيلة، على جانبيها نوافيرُ رفيعة تنفث أقواساً من الماء إلى وسط البركة، فيعود بك الخيال إلى (بِركة الساقية) في قصر جَنَّة العريف، في غرناطة.
وساحة الحسن الثاني في وسط المدينة، تتوسَّطها ظُلَّةٌ أنيقة كذلك، تقوم على أعمدة دقيقة، تُذَكِّر الزائر بِدقَّتها، ولطفها، وجمال هندستها، وزلّيجها، وزخارف أرضيتها، بكثير ممّا يَعْرِف في الأندلس. الأَعمِدَة الرهيفة الجميلة، بشكلٍ خاص، تُذَكِّرني بأعمدةِ جامع قرطبة، وقصر الزهراء، وقصر الحمراء في غرناطة.

  

ثم تنتقل من الساحة إلى القصر الملكي المجاور لها، وهناك  يتجلى الفنُّ المعماريّ المنقول عن الأندلس، والزخارف والنقوش والمقربصات الأندلسية، بأشكال لا تَشْبَع العينُ من تأملها، ولا النفس من الاستمتاع بسحرها الدائم. وهذا الجمال هو بعضُ التفَنُّن البارع المدهش الذي يَتَنافس فيه الصُنّاع التَطوانيون والصُنّاع الفاسيّون بشكل خاص، ويحاول كلٌّ منهم أن يَتَفوَّق فيه على زميله.

هذا القصر الملكي بُني سنة 1600م، القرن العاشر الهجري؛ بناه القائد أحمد الريفي، خليفة الملك سليمان العَلَويّ في الشمال المغربي، ثم أُدخِلَت عليه مع تعاقُب الأجيال ترميماتٌ وإصلاحات عديدة، نَجِدُ تواريخها مُدَوَّنة على جانب باب القاعة الكبرى، في الطابق العُلْويّ، وأما الهندسة الأصليّة فلم يطرأ عليها أيّ تغيير. وقد عَلِمْتُ من وكيل القصر، الذي رافقني في جولتي هناك، أن الصناعة الجِبْصيّة في القصر، بِنُقوشها المُقَرْبَصَة الجميلة الأنيقة، هي صناعةٌ فاسيَّة، وأما الزِلّيج الصغير البديع الألوان فمزيجٌ من صناعة تَطوان وصناعة فاس، وأما المقربصات الخشبيَّة وكلُّ النقوش الخشبيّة فصناعةٌ تطوانية. والفرقُ بين صناعة تَطوان وصناعة فاس في أعمال الزلّيج الصغيرة – كما قال لي وكيل القصر- هو أنَّ الصُنّاع الفاسيّين يصنعون الشكلَ الكامل قِطعَةً واحدة ويشوونه في النار، وأما التطوانيون فَيُقَطِّعونه قِطَعاً صغيرة ثم يشوونها، وبعد ذلك يُلصِقونها على الجدار قطعة قطعة. وكان الصانع التطواني الأول الذي صَنَع نقوش القصر يدعى (المعلم أحمد البوري).

وَتَنْتَقل من القصر الملكيّ في طريق ضَيِّقة نازلة مُتَعرِّجة – هي طريقٌ أندلسيّة صِرْف – لِتَصِل إلى قصرٍ آخر عظيم الفخامة في طرازه الأندلسيّ. ذلك هو (قصر البريشة)؛ وهو جناحان كبيران، عاليا السقوف، أحَدُهما مخصَّصٌ لِبَيع المصنوعات الجلديّة والمنسوجات المغربيّة المشهورة في جمالها، والثاني سياحي: تَدْخُل من الباب فَتُفاجَأ بمنظرٍ لا تَقَع عليه العينُ في أيّ مكان آخر: بَهْوٌ عريض فسيحُ الجوانب، وفي وسطه بِرْكَة ماء صغيرة جميلة، يَنْفرُ الماء من نافورة فيها؛ وَمِن حول البركة جوقةُ رجال ونساء بملابسَ أندلسيّة مزركشة، وفي أيديهم آلاتُ طرب أندلسية. وما إِن يُحِسّوا بِوَقّع خُطاك عند الباب حتى يأخذوا في العزف والغناء، وتَرقُص في وسطهم الراقصات الجميلات، وكلُّ ذلك بفن أندلسي جميل أَخّاذ. وعلى جوانب البَهْو العريض مقاعدُ منخفضةٌ لجلوس الزوّار والسُيّاح للاستمتاع بالرقص والغناء وبالموسيقى الأندلسية.

هذا القصر أَقامَهُ سنةَ 1897 الحاج عبدالكريم البريشة، وكان سفيراً ووزيراً وثريّاً كبيراً، تَوَلَّى مناصبَ رفيعةً في تطوان وفاس والبيضاء في عهد الملك الحسن الأول والملك عبدالعزيز؛ ويُقال إنه بنى قصراً آخر مِثْلَه كذلك، وجَعَل القصرين لِبنْتَيه. وهذا القصر مُتعةٌ للعين والنفس، بما فيه من جمال النقوش والزخارف الأندلسية.

والجديرُ بالذكر أنَّ في تطوان وغيرها من مدن المغرب مدارس خاصة، يدعونها (دُور الصناعة) تُدَرَّسُ فيها فنون النقش والمقربصات والترصيع الأندلسية، لتَظَلَّ حيَّة متطوِّرة باستمرار. وقد دَخَلْتُ دار الصناعة في  تطوان، وتجوُّلتُ في أرجائها، فأدهشتني الصناعات الأندلسية الجميلة التي يصنعها المتدرِّبون هناك، حتى إذا ما وَصَلتُ إلى القاعة الأندلسيّة في الطابق العُلْوي، وَقَفْتُ ذاهلاً أمام الجمال الباهر المتجلّي في الجدران والسقف، وفي قِطَع الأثاث الخشبية البديعة الصنع.

إنَّ كلّ شيء في تطوان، حتى مداخل البيوت، يوحي إليك بأنك في قِطعَةٍ من الأندلس العربيّة في أزهى عصورها.

*  *  *
وآتي الآن إلى الختام من هذه الجولة السريعة، لأَقول إِنَّ ما قَدَّمْتُهُ في هذه الدراسة الموجَزَة ليس سوى خُلاصةٍ للانطباعات التي عُدّت بها من جَولتي في مُدن المغرب. ولكنَّ الواقع الذي شاهدتُه، وعِشْتَه ثلاثة أسابيع هناك، يَظَلُّ أكبر من الكلمات، وهو جديرٌ بمزيد من التفاصيل، وجديرٌ كذلك بمزيد من الصُوَر، لِتُقَرِّبَ الوصف من الحقيقة.
لقد زُرْتُ الأندلس مَرَّتين قَبْل زيارة المغرب: كانت الأولى سنة 1967، والثانية سنة 1974، وكانت الزيارتان للدراسة الفاحصة المتأنّية، لا لِمُجَرَّد السياحة والنزهة. وقد امتلأتْ نفسي بما شاهدتُ هناك من روائع آثار الحضارة العربية الإسلامية الباقية إلى اليوم.
وحين زُرتُ المغرب عام 1974 – بعد زيارتي الثانية للأندلس مباشرة- أحسستُ بأن هذه الزيارة كانت ضروريّة لكي تَكْمُل بها دراستي للأندلس: ذلك لأنَّ بين البلدين، إلى جانب التاريخ الطويل المشترك، حضارةً مشتركة باقية، ولأنَّ المغرب اليوم امتدادٌ رائع للأندلس، وتاريخِهِ، وحضارتِهِ، وفنونِه.

صلة الرحم بالأندلس.

هناك تعليق واحد:

  1. بل الأندلس امتداد طبيعي للمغرب .المغرب هو الأصل عكس ما جاء في المقال .جل الفنون سواء في الهندسة و المعمار و الموسيقى ووو أصله من المغرب و انتقل الى الأندلس مع بداية الفتوحات.

    ردحذف