السبت، 13 سبتمبر 2014

الأناركي الإسباني بوينافنتورا دوروتي Buenaventura Durruti

الأناركي الإسباني بوينافنتورا دوروتي Buenaventura Durruti


يُعتبر بوينافنتورا دوروتي Buenaventura Durruti (ليون الإسبانية, 14 يوليوز 1896م - مدريد, 20 نونبر 1936م) واحدا من رموز الحركة الأناركية الإسبانية قبل و خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936 -1939).

وُلد دوروتي في كنف عائلة عُمالية عام 1896 بمدينة ليون شمال غرب إسبانيا. و هو الابن الثاني من بين ثمانية أنجبهما سانتياغو دوروتي, عامل سكك الحديد, و أناستازيا دومنخي. كانت العائلة تقطن بحي سانتانا المتواضع و المعروف بمنازله الضيقة و القديمة التي كان يقطنها عمال المدينة. دخل دوروتي مدرسة الحي الواقعة بشارع لاميزركورديا, و كان تلميذا نجيبا.

عام 1903م, اعتُقل والده, المُنتمي لنقابة "الاتحاد العام للعمال" UGT بسبب مشاركته في إضراب الدباغين المطالبين بتخفيض ساعات العمل إلى 8 ساعات في اليوم. هذا الإضراب دام أكثر من 9 أشهر و أثر سلبا على المستوى المعيشي للعائلة, ما اضطر والده لإدخاله لمدرسة أخرى أقل مستوى. 


عام 1910م, و في سن الرابعة عشر, غادر فصول الدراسة لتعلم مهنة الميكانيك تحت وصاية ملشور مارتنيز, و هو اشتراكي معروف في ليون بأفكاره الثورية. خلال السنتين التي قضاهما تحت وصاية ملشور, تعلم دوروتي أساسيات الميكانيك و مبادئ الاشتراكية. بعد ذلك انتقل للعمل في ورشة أنطونيو ميخي حيث اختص في تركيب آلات تنظيف المعادن المستخرجة من المناجم.

عام 1912م, و تحت تأثير والده و مارتنيز ملشور, ولج دوروتي لاتحاد عمال المعادن, و هي جمعية منضوية تحت لواء نقابة UGT. كان دوروتي يشعر بالنفور من هذه النقابة بسبب تبنيها لاشتراكية معتدلة و سطحية .

غادر دوروتي ليون للذهاب للعمل في أحد المصانع في ماتايانا. خلال الفترة التي اشتغل فيها هناك, شارك إلى جانب عمال آخرين في طرد أحد المهندسين من المصنع. عند عودته إلى ليون, لاحظ أن عناصر الحرس المدني تراقبه.

إضراب عام 1917 و الاغتراب إلى فرنسا.

في صيف عام 1917م, دعت نقابة UGT لإضراب شارك فيه دوروتي بفاعلية. مواقفه الثورية خلال الإضراب, خصوصا دعوته للعصيان العمالي, أزعجت قيادة النقابة التي قررت فصله منها. من أجل وقف الإضراب, استدعت الحكومة الجيش. أكثر من 500 عامل سقط بين قتيل و جريح, بينما اعتُقل أكثر من ألفي مُضرب. هرب دوروتي إلى خيخون, لكن السلطات لاحقته, فاضطر للعبور إلى فرنسا و بقي فيها حتى عام 1920م.

خلال مقامه في فرنسا, اشتغل دوروتي في باريس ميكانيكيا. و التقى هناك بسبستيان فور, لويس لوكوان و إميل كوتان, إضافة لنشطاء أناركيين إسبان مغتربين تابعين لنقابة "الكونفدرالية الوطنية للشغل" CNT. تحت تأثير هؤلاء توجه دوروتي إلى برشلونة و أصبح عضوا في نقابة CNT.

نقابة  CNT
                                                                                                                                      الكاردينال صولدفيا
في برشلونة, أسس دوروتي رفقة خوان غارسيا أولفير, فرانسيسكو أسكاثو و ريكاردو سانث جماعة "المتضامنون" Los Solidarios.  في عام 1923, قامت هذه الجماعة بالسطو على بنك إسبانيا بخيخون. الأموال المستولى عليها قدمت كمساعدة لعائلات النشطاء المعتقلين. كما حاول أعضاء من الجماعة اغتيال الملك ألفونسو الثالث عشر لكنهم فشلوا. و دائما في عام 1923, تورطت جماعة "المتضامنون" في مقتل كاردينال سرقسطة, خوان صولدفيا إ روميرو, ردا على مباركة هذا الأخير لقتل الناشط الأناركي سالفادور سكويي. فوجد دوروتي و قادة "المتضامنون", مرة أخرى, أنفسهم مطلوبين للعدالة

عام 1924, استضاف الناشط الأناركي البلجيكي هيم داي في منزله ببروكسيل دوروتي و فرانسيسكو أسكاثو, و ساعدهما على الذهاب إلى كوبا. و منها انتقلا إلى الأرجنتين, فالشيلي, التي قاما فيها بهجمات ضد الأبناك بهدف جمع  المال اللازم لتحرير رفاقهما المعتقلين. جاب دوروتي عدة دول في أمريكا اللاتينية ثم عاد إلى أوربا.

دوروتي في الوسط, رفقة فرانثيثكو أسكاثو (على يمينه) كريكوريو خوفير (على يساره)

عام 1927, اعتُقل في فرنسا رفقة فرانثيثكو أسكاثو و كريكوريو خوفير بسبب أنشطتهم الثورية. لكن, بفضل مبادرة اللجنة الدولية لحقوق اللاجئين CIDA التي أطلقها نيكولاس فوسيي و لويس لوكوان, انطلقت حملة كبيرة تُطالب بإطلاق سراح النشطاء الأناركيين الثلاث, الأمر الذي استجابت له السلطات الفرنسية فأفرجت عنهم.

بإعلان قيام الجمهورية الثانية في إسبانيا, عاد دوروتي إلى برشلونة عام 1931, ليصبح من النشطاء الأكثر تأثيرا داخل أكبر منظمتين أناركيتين في إسبانيا آنذاك: CNT (الكونفدرالية الوطنية للشغل) و FAI (الفدرالية الأناركية الأيبيرية). بين عامي 1932 و 1933, شارك دوروتي في التمرد الذي قادته CNT ضد الحكومة الجمهورية التي يرأسها مانويل آزانيا. فردت هذه الأخيرة باعتقال دوروتي رفقة أناركيين آخرين و ترحيلهم لغينيا الإستوائية ثم إلى جزر الكناري.

شارك دوروتي بنشاط , طيلة فترة حكم الجمهورية (1931 -1936), في الاضرابات و الملتقيات و المؤتمرات, كما دخل السجن مرات عديدة.

كان يعيش في ظروف متواضعة مع رفيقته "ميمي" التي أنجب منها ابنته كوليت. تقول الأناركية الإسبانية الشهيرة فدريكا مونسيني عن دوروتي : "هيبة دوروتي, صوته الجهوري, طريقته البسيطة في التعبير و التي تجد طريقها للجميع, كلها عوامل جعلته يمارس جاذبية قوية على الجموع. كان غارسيا أولفير مقتنعا بتفوقه عليه, لكن الرفاق و الشعب عموما يفضلون دوروتي, فقد اهتدوا بالفطرة لطيبة فلبه و استقامة خلقه".

الحرب الأهلية

في الوقت الذي كانت تجري فيه المحاولة الانقلابية للجنرالات الفاشيين, يوم 18 يوليوز 1936, كان دوروتي أحد أهم الفاعلين في الأحداث الثورية التي وقفت في وجه الانقلاب. فبمعية مجموعته "نحن" Nosotros, التي خلفت "المتضامون" Los solidarios, قاد دوروتي عملية الدفاع عن برشلونة التي قُتل خلالها صديقه و رفيق دربه فرانثيثكو أثكاسو.

يوم 20 يوليوز, و مباشرة بعد اندحار الجيش في برشلونة, قامت ميليشيات CNT الأناركية بالسيطرة على المدينة بالكامل. و خلال اجتماع الفيدراليات المحلية لنقابة CNT, اقترح دوروتي و باقي قادة النقابة إنشاء لجنة مركزية للميلشيات المعادية للفاشية  بقطلونية و المعروفة اختصارا ب CCMA, بمشاركة باقي التنظيمات السياسية. هذه اللجنة التي تكونت من التحرريين, الجمهوريين, القوميين القطلان و الماركسيين أضحت السلطة الفعلية في قطلونية. أما حكومة برشلونة Generalitat برئاسة لويس كامبانيس فاكتفت بالمصادقة على قرارات CCMA.

عُيّن دوروتي مسؤولا عن قطاع النقل في اللجنة. لكن النقاشات العقيمة داخلها أزعجته, كما وجد نفسه و قد ابتلعه المستنقع البيروقراطي, فقرر الرحيل من برشلونة يوم 24 يوليوز لجبهة أراغون واضعا نُصب عينيه تحرير سرقسطة, المعقل الآخر للأناركية إلى جانب برشلونة. أخذ دوروتي معه إلى أراغون الآلاف من الفدائيين الذين سيُعرفون فيما بعد باسم "طابور دوروتي".

بعد معركة خاطفة و عنيفة بكاسبي (100 كلم شرق سرقسطة) مع قوات فرانكو, توقف زحف طابور دوروتي عند بلدة بينا ديليبرو (38 كلم عن سرقسطة). كان دوروتي مقتنعا بضرورة الهجوم على سرقسطة و فتحها, لكنه استجاب لنصيحة ضابط في الجيش النظامي يعمل مستشارا تقنيا له مفادها ضرورة تأجيل الهجوم على عاصمة أراغون. اليوم يبدو قرار التأجيل خاطئا, فالجمهوريون بمن فيهم كتائب دوروتي لن يسيطروا أبدا على سرقسطة خلال الحرب الأهلية. لو فتح دوروتي سرقسطة كان شمال إسبانيا سيتحرر بسرعة و بالتالي كانت الثورة الاجتماعية التي يدافع عنها دوروتي ستتقدم بالموازاة مع الحرب ضد الفاشية, و هو الأمر الذي كان يخشاه الشيوعيون الستالينيون الذين كانوا يفرضون سيطرتهم شيئا فشيئا على حكومة مدريد الجمهورية.


كانت الأحزاب الجمهورية, و بينها الشيوعيون التابعون لموسكو, تبحث قدر المستطاع عن تقليص وصول السلاح لطابور دوروتي. هذا الأخير تذمر مرارا و تكرارا من نقص جودة السلاح و فساده و أيضا من نقص الذخيرة. لقد كان طابور دوروتي يحارب الجيوش الفاشية و في نفس الوقت يخوض الثورة الاجتماعية و الاقتصادية. فكانت البلدات التي يحررها الطابور الأناركي تشهد ميلاد المزارع الجماعية و مصادرة ملكيات كبار المُلاّك, كما كانت تُلغى الملكية الخاصة و الأموال. لقد وجدت الشيوعية التحررية على يد دوروتي مستقرا لها رغم أنف الشيوعيين الستالينيين الذين ما كانوا يرغبون في ثورة اجتماعية بإسبانيا بسبب التحالفات التي عقدتها راعيتهم موسكو مع الديمقراطيات البورجوازية. في هذه الفترة صرّح دوروتي قائلا : "سنُريكم أيها البولشفيون الروس و الإسبان كيف تُقام الثورة و كيف تَصل إلى هدفها. توجد عندكم دكتاتورية, في جيشكم الأحمر يوجد كولونيلات و جنرالات, بينما لا تجد تراتبية في طابوري, فجميعا لنا نفس الحقوق, كلنا جنود, أنا أيضا جندي".

حتى القادة الأناركيون الذين بقوا في برشلونة, مثل فدريكا مونسيني و غارسيا أولفر, الذين تعاونوا داخل الحكومة مع الأحزاب الجمهورية البورجوازية و الشيوعيين, لم يكونوا ينظرون بعين الرضا للنشاطات الثورية لطابور دوروتي. لقد كان دوروتي معارضا لإذماج المليشيات الاناركية في السلك العسكري. لهذا بحث قادة النقابة الأناركية CNT عن إبعاده من جبهة أراغون و اجتذابه إلى الفخ بمدريد.

كان دوروتي يقف حجرة عثرة في سبيل إذماج المليشيات الأناركية في السلك العسكري, و هو الأمر الذي يدافع عنه الشيوعيون, قادة CNT و باقي الجمهوريين. يقول دوروتي في هذا الصدد : "كنت طيلة حياتي أناركيا, و أتمنى الاستمرار كذلك. كان سيؤسفني حقيقة لو أصبحت جنرالا أقود الرجال بالعصا العسكرية. لقد قصدوني طواعية, و هم على استعداد تام للمغامرة بحياتهم من أجل حربنا ضد الفاشية. أعتبر الانضباط أمرا ضروريا, لكنه يجب أن ينبع من داخل الفرد و بدافع التصميم الجماعي و الإحساس القوي بالرفقة".

في نفس الفترة عبّر عن موقفه المعادي للجمهورية : "لا داعي للتنكر في زي جندي إذا كنا سنترك جمهوريي 1931 المُدعين يحكموننا مرة أخرى. نحن نرضى بالقيام بتضحيات جسام, لكننا لا ننسى أن واجبنا هو خوض الحرب و الثورة".

مقتل دوروتي

دوروتي قتيلا

في نونبر عام 1936م, أقنع قادة CNT الراغبون في التعاون مع الشيوعيين دوروتي بقيادة طابوره إلى مدريد للمساعدة على التصدي للهجوم الفرانكوي. بُعيد وصوله أُصيب دوروتي إصابة قاتلة تُوفي على إثرها ساعات بعد ذلك. الظروف الحقيقية لمقتله تبقى غامضة. الأكيد أن الرصاصة التي قتلته لم تكن فرانكوية المصدر. الشيوعيون أطلقوا دعاية مفادها أن دوروتي قُتل على يد رجاله بسبب تسلَُطه المزعوم.

في المقابل هناك من يتهم الشيوعيين الستالينيين الذين كانوا من أهم خصومه. بينما يرجح آخرون فرضية خلل في سلاحه أو أن رصاصة من رجاله أصابته بالخطأ, لكن من دون تقديم أدلة ملموسة. آبيل باز, كاتب سيرة دوروتي, رجح في كتابه فرضية تورط الستالينيين في مقتله.


جثمان دوروتي نُقل من مدريد إلى برشلونة و حضر جنازته المهيبة  أكثر من 250 ألف شخص, و دُفن في مقبرة مونتخويك. كان جنازة دوروتي آخر تظاهرة جماهيرية ضخمة للقوى الأناركية خلال الحرب الأهلية الإسبانية.

طابور دوروتي
لم يختف الطابور الذي أنشأه دوروتي بوفاته, فقد استمر في القتال ضد قوات فرانكو طيلة الحرب الأهلية تحت اسم "الفرقة 26", و التي قادها ريكاردو سانز.

جدل حول آخر كلماته
"سنتخلى عن كل شيء, إلا عن النصر". في الحقيقة لم يقل دوروتي هذه الكلمات, و هي مجرد دعاية ستالينية كان هدفها دفع الأناركيين للتخلي عن الثورة الاجتماعية و الاقتصادية التي كان يدافع عنها دوروتي طيلة حياته و التفرغ للمجهود الحربي.

 جريدة "صديق الشعب" لسان أصدقاء دوروتي.

أغنية تشيتشو سانشيز فرلوسيو عن دوروتي
ها هو دوروتي و رسالة في اليد,
كُتب فيها كل شقاء هذا الشعب الأبي.

هاهو دوروتي و كتاب في محفظته,
يدون فيه الملايين التي سرقها الرأسمال.

ها هو دوروتي مع 14 رفيقا,
يخبر أرباب العمل بمطالب العُمال.

ها هو دوروتي و معه ورقة,
يطلب من الجنود مغادرة الثكنات.

ها هو دوروتي بلا عربة و لا مال,
يحيي العالم, الفلاحين و المياومين.

هاهو دوروتي و معه الألواح,
كي يَعلم العمال أنه لا وجود
للوطن, للرب و للملك.

صلة الرحم بالأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق