الأحد، 18 يونيو 2017

لهذا تخلى القايد المنظري مؤسس تطوان عن حصنه الأندلسي و غادر إلى المغرب (رواية من التراث الغرناطي اليوم)

لهذا تخلى القايد المنظري مؤسس تطوان عن حصنه الأندلسي و غادر إلى المغرب (رواية من التراث الغرناطي اليوم)
أطلال قلعة بينار Pinar

من كتاب "أساطير بلداتنا" Las leyendas de nuestros pueblos" للأندلسي خوثي مانويل فرنانديث مارتين. 


ترجمة هشام زليم.
صلة الرحم بالأندلس.

كانت الريح تُزمجرُ زمجرة أسدٍ في أعلى التلة الصخرية التي تتربع عليها قلعة بينارPiñarبكل مهابة. على أحد أبراجها الدفاعية تتراءى هامةُ رجلٍ ممشوق القامة, و بينما كانت  نسمات الرياح تتلاعب بسترته العسكرية, توجهت نظراته نحو اللانهاية. كم من المعارك خاضتها جراحه, و كم من الانتصارات ابتهج لها فؤاده! أما الآن فقد ضعُفت فيه روح المحارب ثم تلاشت فاسحةً المجال لليأس و الإحباط, فقد أثمرت الصراعات الداخلية في مملكة غرناطة ثمارها المُرَّة. فهاهو مَلِكُه أبو عبد الله أسير في يد الكاثوليكيين, بينما الزغل, عم الملك, يُضيقُ الخناق على كل القلاع و الحصون الموالية لابن أخيه؛ و في وسط كل هذا الجنون, يئن الشعب في صمتٍ تحت وطأة أطماع ذوي السلطة. 



بدأ البرد يعم المكان مع إرخاء الليل سدوله. أسفل القلعة, على بعد 1200 قدم, ترقد بلدة بينار الوديعة محتضنة منازلها و سكانها, و قد أوقدوا النار للتدفئة, بعيدا عن شؤون السياسية للمملكة.
بلدة بينار و ما تبقى من قلعتها التاريخية التي كان يقدوها القايد المنظري

كان القايد أبو الحسن علي المنظري في قلعته يفكر في صمت: "لن أكون ذاك الذي يضحي بحياتكم في سبيل قضية خاسرة. فالواحد من رجالي أعظم قيمة من هؤلاء الأمراء المتطلعين للسلطة. لقد تعب المحاربون. سنوات طويلة من المعارك و الفتوحات من هذا الطرف أو ذاك, لكن الآن الغرناطيون ينهشون بعضهم...فلِما القتالُ إذن. لماذا عليَِّ التضحية برجالي؟"

لو كان لقلعة بينار أن تتحدث لأخبرت عن المعارك الكثيرة التي شهدتها أسوارها و جدرانها التي تضاعف سمكها على مر العصور حتى أصبحت بسمك ثلاث جدران زيادةً في مناعتها. كم من الجنود الصناديد دافعوا عنها, كم من الدموع انهمرت فيها, كم من صرخات الألم انطلقت من أسوارها, كم من حصار أراد النيل منها على امتداد قرون طويلة, لكنها كانت تخرج دائما منتصرة. و اليوم, ها هو هذا الحصن قد بات محط أطماع العدو. ماذا بوسع قائد أن يفعل في الخط الحدودي الأخير شمال غرناطة؟ القتال, الدفاع, المقاومة و التضحية بالعديد من الأرواح للإبقاء على طبقة نبيلة فاسدة؟ 

و هو على هذه الحال من التفكر, جاءه أحد جنوده بصحن حساء ساخن, لكنه رفض تناوله لفقدانه الشهية. كانت نيران التدفئة تضطرم بجانبه, ما أضفى على وجهه توهجا شبحيا. انسحب الجندي بكل تقدير و احترام للقايد أبي الحسن علي المنظري و تركه غائصا في بحر تفكيره العميق, بينما الريح تعوي من خلال الأبراج و كأنها روح معذبة. 


أخذ أبو الحسن يجول بناظريه في السماء لعله يقف على إشارة من النجوم تُكذِّبُ هواجسه, لكن لا بصيص أمل يبدو في الأفق, ففرناندو الكاثوليكي يحاصر الغرناطيين أكثر فأكثر, بينما أعلن الزغل الحرب على ابن أخيه أبي عبد الله. 

"سيدي أبي عبد الله في مطاردة بلا معنى سقط أسيرا في يد الملكين الكاثوليكيين, و أخشى أن يترتب عن هذا أمور وخيمة لشعبي"..."لا يُعجبني المسار الذي تتخذه هذه الحرب, فمكائد البلاط باتت تحكم مصير أمة بكاملها, بينما هُجِرت البسالة و الشرف, و لم تعد الكلمة لقانون المحارب و إنما لآراء الخليعين. إنها اتفاقات الأقوياء التي تبيع و تشتري أرواح الشعب الذي يُبقيهم".

مثل كل ليلة, كان المنظري يرقب من فوق أبراج قلعة بينار أنوار قلعة توري كارديلا التي كانت تراقب وادي فرديس و لاهويا وادي آش. كانت تشهد هذه المنطقة الحدودية أولى المناوشات كلما أراد القشتاليون شن هجوم على الغرناطيين.

"لكن هذه الليلة الأخيرة التي ستكون فيها الحراسة في قلعة بينار بيد العرب, هذه مشيئة الله, و غدا سأتجه نحو المنفى في الأراضي الإفريقية بمعية خيرة و أوفى المحاربين النصريين. سأتخلى طواعية عن هذا الحصن. لن أكون دمية متحركة إضافية في سيرك الحسد و الجُبن. سيُدوِّنُ التاريخ مصير القلعة, أما مصيري أنا فسأدونه بعزم أكيد في أراضٍ أخرى". (1)

بعد فترة قصيرة, و تحديدا عام 1485م, ظهر سيدي أبو الحسن المنظري الغرناطي في شمال المغرب و أعاد تأسيس مدينة تطوان المغربية. ما من شك أن ذكرى بينار بقية حية في قلب و ذاكرة أبي الحسن حتى وفاته عام 1540, كما أن بلدة بينار الغرناطية لم تنسَ قائدها و هي  تعتبره أعظم رمز في تاريخها, و لا أدل على ذلك من أن أكبر شوارعها يحمل اليوم اسم شارع "القايد المنظري" Calle Caid Al-Mandari".
شارع القايد المنظري ببلدة بينار شمال غرناطة.


مدونة صلة الرحم بالأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق