الأربعاء، 11 فبراير 2015

هجرة البولوني شوليك إلى إسرائيل.

هجرة البولوني شوليك إلى إسرائيل.



المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند






















من مقدمة كتاب "Comment le peuple juif fut inventé" ("كيف اختُرِع الشعب اليهودي") للمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند. الكتاب في نسخته الفرنسية مُترجم عن العبرية (إصدار فايار Fayard عام 2008).

"كان يُدعى شوليك, فيما بعد في إسرائيل صار اسمه شاؤول. وُلد عام 1910 بمدينة لودز في بولندا. تُوفي والده في أواخر الحرب العالمية الأولى جراء وباء الأنفلونزا الإسبانية, فكان على والدته الكدح كعاملة في إحدى مصانع النسيج في المدينة. نتيجة لذلك, اثنان من أبنائها الثلاثة وُضعوا في مركز للرعاية تابع للطائفة اليهودية. وحده شوليك, آخر العنقود, بقي في المنزل العائلي. تردَدَ لبضع سنوات على المدرسة التلمودية, لكن فاقة والدته رمته سريعا إلى الشارع, و شرع منذ نعومة أظافره في العمل في العديد من مصانع النسيج. كان هذا واقع مدينة لودز, مركز صناعة النسيج في بولندا.

دوافع عادية للغاية دفعته للتخلي عن المعتقدات الدينية السلفية الموروثة عن والديه. فقد أدت وفاة والده إلى تدهور الوضعية الاقتصادية لوالدته التي تقهقرت للصفوف المتأخرة في كنيس الحي: فخسارة المكانة الاجتماعية كانت تُترجم أيضا بالبعد عن الكتاب المقدس, ففي المجتمعات التقليدية كان هناك قانون تراتبي قاس بموجبه يُصاحب إفلاس الرأسمال المالي دائما تقريبا اندحار للرأسمال الرمزي. هكذا قرر الشاب التخلي عن الحضور للكنيس! كانت هذه الطريقة في هجر الدين شائعة جدا  بين شبان الأحياء اليهودية بالمدن الكبرى. هكذا وجد الشاب شوليك نفسه بلا سقف و لا إيمان.

لم يدم الأمر طويلا! فانخراطه في الحركة الشيوعية, و هي ظاهرة شائعة آنذاك, سمح له بالتقرب من غالبية الساكنة البولندية على الصعيدين الثقافي و اللغوي. سرعان ما أصبح شوليك ناشطا ثوريا. كان خياله يتغذى من النظرة الاشتراكية التي صاغت ذهنه و التي استطاع من خلالها تعلم القراءة و التفكير, رغم الكدح اليومي الشاق. شكل له التنظيم الشيوعي مأوى واقيا لكنه قاده أيضا إلى السجن بتهمة ممارسة أنشطة هدامة. قضى 6 سنوات في الاعتقال وسع خلالها تعليمه و مداركه من دون الحصول على شهادة. و إذا كان غير قادر على استيعاب كتاب "الرأسمال" لكارل ماركس, فقد نجح في المقابل في الإحاطة بشكل جيد بالكتابات الشعبية لفريدريش إنغلز Friedrich Engels و فلاديمير إلتش أوليانوف, المشهور بلنين. شوليك الذي لم يكمل تعليمه في المدرسة الابتدائية الدينية (حيدر Heder) و لم يستطع الولوج للمدرسة الحاخامية (يشيفا Yeshiva) كما كانت تتمنى والدته, صار ماركسيا. 

نَجِدُهُ, في صقيع دجنبر عام 1939م, بمعية زوجته اليافعة و أختها ضمن طوفان بشري من اللاجئين الفارين نحو الشرق في اتجاه الجيش الأحمر الذي يحتل نصف بولندا. قبل 3 أيام, شاهد بأم عينيه ثلاثة يهود مشنوقين في الشارع الرئيسي للودز: كان عملا مجانيا ارتكبه جنود ألمان بعد ختم جلستهم الماجنة. لم يصحب معه والدته, و علَّل ذلك فيما بعد ببلوغها الكبر و نيل الضعفِ منها: كانت عاملة النسيج قد بلغت عامها الخمسين آنذاك. تقدم السن و البؤس أنهكاها, و كانت من أوائل من رُحِّلوا إلى "الغيتو" Ghetto عبر "شاحنات الغاز", و هي تكنولوجيا للإبادة بدائية و بطيئة سبقت اختراع غرف الغاز. 

لما وصل للمنطقة التي يحتلها السوفيات, أدرك شوليك, الذي زوده نضاله في "الحزب" بحس سياسي راسخ, أن عليه إخفاء انتمائه للحزب الشيوعي: ألم يقم ستالين قبل مدة قصيرة بالتخلص من قادة الحزب (الشيوعي) البولوني؟ هكذا عبر الحدود الجرمانية - السوفياتية مصرحا بهويته اليهودية القديمة و الحديثة. كان الاتحاد السوفياتي إذن الدولة الوحيدة التي وافقت على استقبال اللاجئين اليهود, و كانت تُحوِّل أغلبهم نحو الجمهوريات الآسيوية. هكذا نُقل شوليك و زوجته, من حسن حظهما, إلى بلاد أزبكستان البعيدة, بينما لم يحالف نفس الحظ شقيقة زوجته  : كانت مثقفة و تتحدث عدة لغات, فاستفادت من معاملة تفضيلية و سُمِح لها بالبقاء في أوربا "المُتحضِرة" و التي للأسف لم تكن قد سُميت بعد بالقارة "اليهودية - النصرانية". عام 1941 سقطت بين يدي النازيين الذين اقتادوها نحو معسكرات الإبادة.

عاد شوليك و زوجته إلى بولندا عام 1945م, لكن هذه الأخيرة, و حتى بعد زوال احتلال الجيش الألماني, استمرت في "تقيأ" يهودها. وجد شوليك, الشيوعي البولندي, نفسه مرة أخرى بلا وطن (إذا استثنينا بالتأكيد الوطن الشيوعي الذي ظل مرسى آماله رغم المعاناة التي قاساها ). وجد نفسه, رفقة زوجته و رضيعيهما, في فقر مذقع في معسكر للاجئين بجبال بافاريا؛ هنالك التقى بأحد إخوته الذي كان, على النقيض تماما, يعبر عن بغضه للشيوعية و تعاطفه مع الصهيونية. و من سخرية الأقدار أن الشقيق الصهيوني حصل على تأشيرة الدخول إلى كندا و عاش بقية حياته في موريال, بينما شوليك و عائلته اقتيدوا من طرف الوكالة اليهودية إلى مرسيليا و منها ركبوا نحو حيفا في أواخر عام 1948.

شوليك مدفون حاليا في إسرائيل التي عاش فيها أمدا طويلا تحت اسم شاؤول, مع أنه لم يكن في الحقيقة إسرائيليا أبدا. و هو ليس كذلك (أي إسرائيليا) حتى على بطاقة الهوية:  اعترفت له الدولة, في هذه الوثيقة, بهوية قومية و دينية كيهودي, ففي ستينيات القرن الماضي, كان تسجيل هذه الديانة مفروضا على جميع المواطنين بمن فيهم أعتى الملحدين. بقي شوليك شيوعيا أكثر منه يهوديا و بشكل أكبر "يديشياً" Yiddishiste أكثر منه بولونيا. رغم تعبيره بالعبرية, إلا أن هذه اللغة لم تكن تناسبه, فظل يتحدث مع عائلته و أصدقائه المقربين  باليديشية. 

كان الحنين يملؤه ل"يديشلاند"Yiddishland بأوربا الوسطى و لعالم الثورة الذي كان يغلي في فترة ما قبل الحرب. كان يراوده في إسرائيل شعور بأنه سرق أرض غيره: ربما لم يكن أمامه خيار آخر لكنها تبقى سرقة على كل حال. كان يحس بأنه غريب, ليس وسط السابراس Sabras (اليهود المولدوون في إسرائيل) الذين يبغضون "اليديشيين" المنتمي إليهم, و إنما في علاقته مع الطبيعة: كانت رياح الصحراء تُضايقه و تعمق حنينه للثلج الكثيف الذي كان يكسو أزقة لودز. لم تتوقف ثلوج بولندا عن التهاطل في ذكرياته, حتى اختفت تماما لما أغمض عينيه إلى الأبد. على قبره غنَّى أصدقاؤه القدامى نشيد الأممية (النشيد الرسمي للشيوعيين في العالم)."

الشيوعي البولندي شوليك ليس سوى والد المؤرخ شلومو ساند!

صلة الرحم بالأندلس. 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق