الأحد، 22 فبراير 2015

شراب "الماحيا" في المَلاَحات اليهودية بالمغرب




شراب "الماحيا" في المَلاَحات اليهودية بالمغرب

هشام زليم


يهود في ملاح مكناس.

يُعدُ الشاي بالنعناع المشروب القومي للمغاربة. قبل أن يتفرق يهود المغرب في أنحاء المعمور منتصف القرن العشرين كان هناك مشروب يكاد ينافس الشاي إن لم يكن يتفوق عليه, على الأقل بين اليهود.


في المَلاَّح, أو الحي اليهودي في المغرب, كان الجميع يحتسي الماحيا (ماء الحياة, و هو نوع من الخمر يستخرج من التين بعد عصره و تخميره) بما في ذلك النساء و الأطفال و حتى الحاخامات. لقد كانت الماحيا حاضرة في جميع المناسبات.

في كتابه "Langue et folklore des juifs marocains" (لغة و فلكلور اليهود المغاربة) نقل الباحث و الأستاذ الجامعي بينحاس بيير كوهن Pinhas Pierre Cohen ما أورده الباحث المكناسي جوزيف طوليدانو Joseph Toledano عن تاريخ الماحيا بأسلوب دقيق لا يخلو من روح الدعابة, حيث خصص طوليدانو (و تعني بالقشتالية الطليطلي, و أسرته من العوائل اليهودية التي غادرت طليطلة الإسبانية إبان التعسف الكاثوليكي) جزءا من كتابه "L'esprit du Mellah" (روح الملاح) للشراب الروحي الماحيا سمَّاه Plaidoyer pour la mahia "مرافعة لصالح الماحيا".

و يعتبر جوزيف طوليدانو واحدا من العارفين بتقاليد يهود مدينة مكناس المغربية حيث وُلد و ترعرع بهذه المدينة التي كانت تسمى في وقت مضى "القدس الصغرى", إضافة لكونه مؤرخا متخصصا في شؤون يهود الملاحات.

الماحيا هي جزء أصيل من تراث الملاّح بأفراحه و أتراحه و أساطيره و معجزاته. كان اليهودي المغربي منغلقا على ذاته بين أسوار ملاحه, فلم يكن يجد دافعه للعيش سوى في الإخلاص للشريعة و لم يكن يفتح شهيته للحياة الدنيا سوى ما لذ من الطعام و الشراب. جُرعات قليلة من الماحيا هي بركة و مدعاة نشوة تُنسيك شقاء العيش. جُرعات مفرطة قد تكون مُهلكة. تعددت دوافع شرب الماحيا, لكنها لم تكن تظهر على المائدة إلا حين وجود "السّبََة", أي المناسبة و الداعي الاجتماعي للشرب. و هذا ما ذكرته الباحثة باسكال سيسي Pascale Saisset  في كتابها "Heures juives au Maroc (ساعات يهودية في المغرب): "لا مثيل للماحيا لتنشيط الحديث. تُصاحب كل المناسبات العائلية السعيدة و الحزينة. لا يوجد فقير إلا ويحتفظ بمخزون لاستعماله في أي مناسبة للابتهاج: كبهجة الشبات الصُغرى أو البهجة الكبرى بعيد ديني أو ختان أو زواج. تُشرب الماحيا عند الإحساس بالمغص, تُحتسى منها جرعات عند التعب أو لتهدئة ألم الأسنان. تُستعمل إذا مُزجت بالكمون كدواء كان يوضع على الجرح".

"كانت الماحيا قديما تُحضَّر في المنزل. لكن منذ الاحتلال الفرنسي عام 1912 لم يعد التقطير التقليدي مسموحا إلا تحت مراقبة الدولة و وفق شروط. هل تتصورون أن اليهود أذعنوا لهذا المنع؟".

غالبا ما كان تحضير الماحيا سببا للدخول في شنآن مع السلطات. في نطاق تسامحه, سمح الإسلام المغاربي لليهود بتحضير شرابهم المفضل شريطة ألا يبيعوه للمسلمين. فعهد الذمة الذي يُنظم وجود غير المسلمين على أرض الإسلام يمنع زعزعة عقيدة المؤمنين بدينهم. لكن بالنسبة لمهنيي التقطير -لم يكونوا في حاجة سوى لمُقطر بدائي- كان المسلم أفضل الزبناء.

"حولية فاس" (بالعبرية Yahas Fas) لصاحبها أبنير إسرائيل سرفاتي Abner Israel Serfaty تطفح بتحذيرات السلطات من التعاطي للتجارة غير الشرعية للماحيا, أما التقنوت (الوصايا الحاخامية) فكانت تمنع منعا كليا تحضير أكثر من حاجة العائلة و ذلك بهدف تجفيف منابع السوق السوداء.

عام 1736 أوعز سادة و حاخامات الطائفة بمكناس لحاخامهم الأعظم الربي يعقوب طوليدانو (الطليطلي) بتحديد حصة (كوطا) كافية لكل عائلة لسد حاجتها, و مُنع منعا باتا تجاوز هذه الحصة تحت طائلة دفع غرامات. لقد تم استدعاء كل السلطة الروحية التي يمثلها هذا الحبر الأعظم لوقف هذا "الأذى" و لو إلى حين.

كاد قدوم الفرنسيين يودي بحياة الماحيا لو التزم اليهود بقرارات منع تقطيرها. كانت تسعى السلطات الفرنسية لفرض احتكارها للنبيذ و الكحول كما كان الحال في فرنسا. في مرحلة أولى اكتفوا بقصر التحضير المنزلي على الحاجات العائلية, ثم قاموا بعد ذلك بمنع التقطير التقليدي كليا في المنازل.

أمام هذا القرار الرهيب كان رد الفعل الطبيعي الأاول هو استذرار عطف سلطات الحماية و دعوتها للتفكير المنطقي كما تشهد بذلك رسالة بعثها زعماء الطائفة اليهودية بالمغرب إلى مسؤول فرنسي رفيع. و قد حولت باريس هذه الرسالة للمؤرخ ناحوم شلوز Nahum Schlouz عام 1914 لتقصي وضعية الطوائف اليهودية بالمغرب, و قد جاء في هذه الرسالة:

"سيدي, بدموع ساخنة و قلب كسير جئناكم نضع شكوانا لدى جنابكم و نخبركم عن قطرة واحدة من بحر تعاستنا. نحن الموقعون لسنا سوى فقراء و بؤساء...بيننا المعاقون و اليتامى و الأرامل, لكن لا أحد منا يتعاطى التسول. نعيش من عرق جبيننا عبر تقطير ماء الحياة (الماحيا) الذي نبيعه لأبناء ديننا لأيام الأعياد و البهجة فنسُد بالكاد حاجاتنا. لما قدِم الفرنسيون اعتقدنا أن حياتنا البئيسة ستتحسن تحت ظلالهم, فأقسمنا على الوفاء لهم, فماذا جنينا بالمقابل؟ كان أول إجراء اتخذوه حرماننا من لقمة عيشنا عبر إصدار قرار بحرمان اليهودي, غنيا كان أم فقيرا, من حق التقطير بحجة أن هذه التجارة حكر عليهم, فأقاموا حرسا في المدينة (لهذه الغاية). كل مُخالف يعاقب بشدة, فجفت بذلك العين الصغيرة التي كانت تُعيلنا. رفعنا تظلماتنا إلى كل الجهات, حاولنا التحدث لرؤساء الوزارات و إلى القضاة, لكن ما من مُخَلِّص. و الآن و قد هلت علينا أنواركم, ها نحن نسجد عند أقدامكم  لعلكم ترأفوا بنا, بعائلاتنا التي نالها الجوع, فتتدخلوا لدى السلطات حتى تُخفف قسوة مرسومها الذي أصابنا في مقتل فيتركوا لنا مخرجا مثل فرض إتاوة شهرية أو سنوية مقابل السماح لنا لممارسة حرفتنا التي نتقن مزاولتها".

مع ذلك لم يتوقف تقطير الماحيا لحظة واحدة رغم سيل تهديدات و اضطهادات سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب. هكذا لم يعاني مدمنو "القطرة القوية" نقصا في الإمدادات فقد كان في كل ملاح رجال و نساء شجعان أمنوا بيع قارورات الماحيا في سرية تامة.

المرجع:

- "Langue et folklore des juifs marocains" Pinhas Pierre Cohen.
  
صلة الرحم بالأندلس.

هناك تعليق واحد: