إسرائيل أول دولة في العالم تعترف بقطلونية.
المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند |
من مقدمة كتاب "Comment le peuple juif fut inventé" ("كيف اختُرِع الشعب اليهودي") للمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند. الكتاب في نسخته الفرنسية مُترجم عن العبرية (إصدار فايار Fayard عام 2008).
ترجمة هشام زليم.
"وُلد برناردو في برشلونة عام 1924. سيُنادى فيما بعد بدوف Dov. مثل والدة شوليك (1) , كانت والدة برناردو طوال حياتها امرأة تقية (لم تكن تتردد على الكنيس و إنما على الكنيسة). في المقابل كان والده قد توقف منذ فترة طويلة عن ممارسة أي تجارة مع الروحانيات, فقد صار أناركيا (فوضويا) على غرار آخرين غيره من عمال قطاع الحديد في برشلونة المتمردة. لما اندلعت الحرب الأهلية, قدمت التعاونيات الأناركو - نقابية دعمها للجمهورية الفتية, بل و استطاعت في فترة من الفترات تولي السلطة في برشلونة. لكن القوات الفرانكوية لم تتأخر في القدوم, فشارك الشاب برناردو إلى جانب والده في المعارك الأخيرة في ضواحي المدينة.
لم ينجح تجنيده في جيش فرانكو, سنوات طويلة بعد الحرب الأهلية, في تحسين علاقاته مع النظام: ففي عام 1944 هرب بسلاحه من الجيش و لجأ إلى (جبال) البرانس, حيث قام بمساعدة المعارضين الباحثين عن الفرار من قبضة النظام و ظل ينتظر على أحر من الجمر وصول القوات الأمريكية التي كان مقتنعا بقدومها لقلب نظام الحليف الشرس لموسوليني و هتلر. أمام عظيم دهشته, لم يتدخل "المحررون الديمقراطيون" في إسبانيا. فلم يبق أمامه من خيار سوى عبور الحدود ليُصبح هو أيضا مشردا بلا وطن. اشتغل في فرنسا بالمناجم ثم حاول الوصول للمكسيك كمهاجر سري, لكنه اعتقل في نيويورك و أٌبقي قيد الحجز قبل أن يُطرد إلى أوربا.
وجد نفسه هو أيضا في مرسيليا عام 1948, و استطاع الحصول على عمل في مرافئ بناء السفن. في إحدى ليالي شهر مايو كان جالسا في مقهى أحد المرافئ صحبة مجموعة من الشباب المُفعمين بالحماس. في غمرة حميمية اللحظة, اقتنع عامل قطاع الحديد الشاب بأن الكيبوتس Kibboutz في دولة إسرائيل الوليدة كان يشكل استمرارا واضحا للتعاونيات الثورية في برشلونة التي كان يشده الحنين إليها. بلا أي رابط مع اليهودية و الصهيونية, ركب سفينة مليئة بالمهاجريين السريين في اتجاه حيفا, و منها اقتيد مباشرة إلى منطقة القتال في اللطرون. خرج برناردو حيا, عكس جم غفير, و التحق فورا بالكيبوتس الذي حلم به ذات ليلة ربيعية في ميناء مرسيليا. و هناك التقى بتلك التي ستصبح رفيقة حياته: عَقَدَ قرانهما على عجل حاخام رفقة العديد من الأزواج الآخرين. كان الحاخامات آنذاك يمارسون مهامهم في سرية تامة و لم يكونوا يطرحون أية أسئلة على الأزواج.
لم تتأخر وزارة الداخلية في الانتباه إلى أن خطأ فادحا قد ارتُكب: برناردو, الذي صار يُدعى دوف, لم يكن يهوديا. لم يتم مع ذلك إبطال الزواج و استُدعي لمقابلة رسمية لتوضيح هويته بشكل نهائي. استقبله موظف يعتمِرُ طاقية كيباه Kippa سوداء عريضة. كان الفصيل الصهيوني الديني مزراحي Mizrahi متغلغلا في وزارة الداخلية رغم انتمائه "للتيار الديني القومي", و قد كان حينها مٌعتدلا و غير مُبالِغ في مطالبه بخصوص "الأراضي القومية" و تحديد "الهوية".
فدار بينهما حوار قريب من هذا:
- سأله الموظف: "لستَ يهوديا؟"
- أجابه دوف: "لم أدَّع ذلك أبدا".
- "يجب أن تُغير ما هو مذكور على بطاقة هويتك.
- أجابه دوف: "لا مشكل عندي, قوموا بذلك"
- فسأله: "ما هي جنسيتك؟"
تردد دوف قليلا قبل أن يجيب:
- "إسرائيلي".
- فرد عليه الموظف بلهجة قاطعة: "مستحيل! هذا أمر لا وجود له."
- " و لماذا إذن؟"
- "بسبب عدم وجود هوية قومية إسرائيلية", ثم تنهَّد ممثل وزارة الداخلية و أضاف: "أينَ وُلدتَ؟"
- "في برشلونة".
- فأجابه الموظف و قد ارتسمت ابتسامة على شفتيه: "إذن الجنسية إسبانية."
- "لكنني لستُ إسبانيا! أنا قطلوني, و أرفض أن يتم تسجيلي كإسباني, حاربتُ لأجل هذا رفقة والدي خلال سنوات الثلاثينات!".
- حك الموظف جبينه. لم تكن معارفه التاريخية واسعة لكنه كان يحترم الأفراد : "سنكتب إذن: الجنسية قطلونية".
فبادر دوف بالتعليق:
- "هذا جيد!".
هكذا صارت إسرائيل أول دولة في العالم تعترف رسميا بالقومية القطلونية.
- واصل الموظف: "و الآن, ما هي ديانتك سيدي؟"
- "أنا مُلحد".
- "لا أستطيع كتابة ذلك. لم تُخصِص دولة إسرائيل مكانا لهذا التوصيف. ما هي ديانة والدتك؟
- "كانت لا تزال كاثوليكية لما تركتها.
- فقال الموظف منشرحا : "سأكتب إذن: الديانة نصرانية".
دوف, الهادئ الطبع عادة, بدأ يفقد صبره:
- "لا حاجة لي في بطاقةِ هويةِِ يُذكرُ فيها أني نصراني! ليس فقط لمعارضتها قناعاتي و إنما أيضا لخدشها ذكرى والدي الذي, باعتباره أناركيا, أحرق الكنائس خلال الحرب الأهلية."
تردد الموظف مرة اخرى و انتهى إلى إيجاد حل. خرج دوف من المكتب و بين يديه بطاقة هوية زرقاء اللونِ كٌتب عليها بحروف سوداء: جنسيته و ديانته : قطلونية.
ظل القلق يساور دوف طيلة سنوات خوفا من أن تضُر "هويته القومية و الدينية" الخارجة عن المألوف بمصالح بناته. ففي المدارس الإسرائيلية يتوجه الأساتذةُ بانتظامِِ إلى التلاميذ مستفتِحين ب "نحن اليهود" دون الأخذ بالاعتبار أن بينهم أكثر من واحد والداه, أو هو نفسه, لا يُعتبرون منتمين "للشعب المختار". وقف اللاتديُن الراسخ المُعلن من طرف دوف و مُعارضة زوجته لختانه سدا منيعا أمام اعتناقه لليهودية؛ لقد حاول في إحدى الفترات إيجاد انتساب وهمي للمرانيين Marranes (اليهود الذين اعتنقوا النصرانية قسرا في إسبانيا خلال القرون الوسطى). لما رأى أن بناته قد بلغن سن الرشد و لم يصدمهن قط كونه غير يهودي, تخلى نهائيا عن فكرة الانحدار من هؤلاء اليهود المتحولين (للنصرانية).
في مقابر الكيبوتزيم Kibboutzim لم يكن "الأمميون" لحسن الحظ يُدفنون في معزل أو في مقابر النصارى, كما كان الشأن في مناطق أخرى من إسرائيل. يرقد دوف في مقبرة مشتركة مع باقي أفراد الكيبوتس. ظلت بطاقة هويته مفقودة بعد وفاته؛ على العموم هو لم يصطحبها معه في سفره الأخير."
لم يكن "القطلوني" برناردو (دوف) سوى والد زوجة المؤرخ شلومو ساند.
(1) قصة شوليك هجرة البولوني شوليك إلى إسرائيل.
صلة الرحم بالأندلس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق