الخميس، 11 يوليو 2024

3-ظروف و ملابسات تطور مستوطنة فيرجينيا الإنجليزية في أمريكا

  3- ظروف و ملابسات تطور مستوطنة فيرجينيا الإنجليزية في أمريكا 

المستوطن الأمريكي جون سميث

و هو الجزء الثالث من ترجمة كتاب: "الأمريكيون: ميلاد و ازدهار الولايات المتحدة. من 1607 إلى 1945. 

Les Américains: Naissance et essor des Etats-Unis 1607-1945

للمؤرخ الفرنسي أندري كاسبي André Kaspi. تاريخ صدور الكتاب: فاتح يناير 1986.

ترجمة هشام زليم.

باحث في تاريخ المغرب, الأندلس و إسبانيا.

صاحب مدونة صلة الرحم بالأندلس.

صاحب قناة معلومات مغربية أندلسية على يوتيوب.

رابط الجزء 1: لماذا تأخر الإنجليز في غزو أمريكا و لماذا تركوا المبادرة للبرتغال, إسبانيا و فرنسا؟ 

رابط الجزء 2 :الخطوات الإنجليزية الأولى لغزو أمريكا و ظهور الفلسفة الإستيطانية الإنجليزية لأمريكا و تأسيس فرجينيا.

مع ذلك، كان يجب انتظار خليفة إليزابيث، جاك الأول (جيمس الأول) كي ينطلق مسار الإستيطان فعليا. في عام 1606، ثلاث سنوات بعد اعتلائه العرش، منح جيمس الأول ميثاقا لشركتين تجاريتين كانتا تحملان اسم شركة فرجينيا Compagnie de Vírginie. الأولى جعلت مقرها في بليموث Plymouth و الثانية في لندن. كانت تجمعهما نفس الأهداف. تجار مغامرون اجتمعوا لتقاسم الاستثمارات و المخاطر و الأرباح. و قد التزموا بتسليح السفن التي ستنقل المستوطنين. إذا دفع المستوطنون ثمن سفرهم فسيكون بمقدورهم العمل لحسابهم الخاص بمجرد وصولهم. أما إذا كانت الشركة من تحملت مصاريف سفرهم، فستستفيد طيلة 7 سنوات من ثمار عمل هؤلاء المستوطنين. 

تحصلت شركة فرجينيا لندن على حقوق تأسيس مستوطنات بين خطي العرض 34 و 41 درجة، أما شركة فرجينيا بليموث فنالت حقوق خطي عرض 38 و 45 درجة، مع العلم أن الترخيص يشترط ألا تبتعد المستوطنات عن الساحل بأكثر من 100 ميل، و أن تبتعد مستوطنة كل شركة عن الأخرى على الأقل ب 100 ميل (و ذلك في المناطق المشتركة بين الشركتين).



* شركة فيرجينيا - بليموث

لم يكن هناك وقت لإضاعته. فقد سارعت شركة فرجينيا بليموث Plymouth لإرسال بعثة نزلت عند مصب نهر ساغاداهوك Sagadahoc في قلب منطقة ماين Maine. كانت ظروف العيش فيها صعبة للغاية. لم تُعمِّرُ هذه المستوطنة طويلا و سرعان ما تخلت مجموعة فرجينيا بليموث Plymouth عن مشاريعها الأمريكية و منحت حقوقها لشركة أخرى كانت تُسمى "مجلس انجلترا الجديدة" Conseil de Nouvelle-Angleterre.

* شركة فيرجينيا - لندن

أما مجموعة فرجينيا لندن فقد حالفها النجاح. حيث جمعت أسطولا من ثلاث سفن هي:  Susan Constant, Godspeed و Discovery. كان القائد نيوبورت Newport على رأس هذه الرحلة  و قد وُجهت له تعليمات باختيار موقع على مجرى مائي, على أمل الوصول يوما ما إلى الهند الشرقية, و بتقسيم المستوطنين إلى 3 مجموعات لبناء و تحصين البلدة, و بزراعة الخضروات و استكشاف المناطق المجاورة و تقييم إمكانيات القيام بتبادلات. 

يوم 20 دجنبر 1606, غادرت السفن الثلاث لندن حاملة معها 144مستوطنا, كلهم رجال, لم تكن بينهم أية امرأة. بدت الرحلة و كأنها لن تنتهي. كان الطريق من إنجلترا إلى أمريكا عبر جزر الكناري و جزر الأنتيل يستغرق 4 أشهر. هكذا, يوم 26 أبريل 1607, وصلوا أخيرا إلى فرجينيا. صعد الأسطول نهر جيمس James River, و هو مجرى مائي سمي باسم ملك إنجلترا. هذا المرفأ الملائم صار فيما بعد بلدة جيمس تاون James Town. لكن الموقع لم يكن صحيا و المستنقعات المجاورة كانت مواتية لظهور الملاريا و إن كانت الغابات توفر الخشب اللازم لبناء المنازل و الحصون. كانت ظروف الحياة قاسية للغاية و لم يكن الطعام صحيا. هكذا فتك الموت بالمستوطَنة. بعد مرور سنة على إقامتهم, بقي على قيد الحياة فقط 53 فردا بين 144 . حينها وصلت سفينتان محملتان بتعزيزات و تموينات. لكن هذا لم يمنع حاكم المستوطنة من أن يكتب عام 1614: "الجميع تقريبا يشتكون من وجودهم هنا". و يختتم الرسالة بطلب للملك بأن يبعث إلى فرجينيا كل المحكومين بالموت في السجون الإنجليزية, لأنهم على الأقل سيكونون سعداء "بأن يأسسوا هنا بلدهم الجديد".

مشاكل مستوطنة جيمس تاون James Town الثلاثة.

     المشكل الأول: 

كان على مستوطني جيمس تاون James Town مواجهة ثلاث مشاكل. المشكل الأول يتعلق بإدارة المستوطنة. أشهر و أكفأ "مُرشد" Conseiller, كان هو العميد جون سميث John Smith. كان هذا الرجل يجسد في سن السابعة و العشرين, مجتمع التجار المغامرين. كان يعرف أوربا التي حارب فيها كجندي, فعرف كيف يستخدم تجربته العسكرية. و بينما كان رفاقه في التعاسة يغوصون في اليأس, احتفظ هو بالانضباط العسكري, و توغل بكل جرأة داخل البلاد الأمريكية و قام بأخذ معلومات طبوغرافية. لكن الهنود أسروه, و حسب الأسطورة, أبقوا على حياته بفضل إصرار الشابة بوكاهونتاس Pocahontas, ابنة الملك بوهتان Powhatan. 



بفضل علاقاته مع الهنود, أدرك سميث Smith أن المستوطنة لن تصمد إلا إذا اعتمدت على القمح الهندي أي الذُرة. أعطاه الهنود البذور, فشرع المستوطنون بأوامر من سميث بزراعة الذرة. صارت هذه الحادثة رمزا يبرهن على دور الزعيم. لقد لعب سميث دورا حاسما في فترة حاسمة. تُبين الحادثة أيضا أهمية الذرة في تاريخ الحضارة الأمريكية و ستأكد بقية الأحداث ذلك بكل وضوح. كما تعطي فكرة عن تغير عميق في العقليات الجماعية. فحتى ذلك الوقت, كان المستوطنون يبحثون عن جمع الذهب و التبادل مع السكان الأصليين الهنود و جمع الفواكه البرية و الاصطياد. لكن سميث اكتشف أنه من أجل البقاء حيا لا بد من العمل و أن المستوطنين لا يمكنهم الاكتفاء بلعب دور المفترسين. هكذا ستصير فيرجينيا مستوطنة للاستغلال و التعمير في آن واحد. 

   المشكل الثاني: 

أما المشكل الثاني فيتمثل في كون عقلية الإنجليز الذين استقروا في جيمس تاون James Town لم تكن عقلية زراعية راضية بأعمال الحقول. لقد كانوا ينتظرون العمل أقل قدر ممكن. كان سميث قد وضع جدولا زمنيا أقره عام 1608 يقضي بالعمل 4 ساعات يوميا, و ما تبقى للترفيه. بعد عودته إلى لندن, فكر مليا في المسألة و اقترح 6 ساعات عمل. سار المستوطنون و الحُكام الذين توالوا على نهجه. مع العلم أن قلة النشاط البدني, أو حتى الكسل له ما يبرره. فالأمراض مثل داء الأسقربوط, الملاريا, التيفويد و الدفتيريا ألحقت أضرارا كبيرة بالسكان. 

لم تكن قواعد المستوطنة تتضمن آنذاك الملكية الفردية, فالفرد يعمل للجماعة و ليس لحسابه الخاص. هكذا, قام الانجليز بالاقتداء بالنموذج الإسباني في الاستيطان: السكان الأصليون يعملون, الأوربيون يراقبون, ينظمون و يجنون الأرباح. غير أن فيرجينيا ليست هي البيرو و الهنود يقاومون الدخيل. و بالتالي لا يمكن تصور المستوطنة كبعثة عسكرية. يجب زراعة الأرض و عدم الاكتفاء بالصناعة الحرفية التقليدية. 

كانت الذُرة تساعد على العيش لكنها لا تُدرُّ دخلا. في المقابل, الزراعة القادرة على تحقيق النمو هي زراعة التبغ. هنا أيضا, ساعد الهنودُ الأوربيين. كانت أول شحنة من التبغ وصلت إلى انجلترا عام 1617 قد بيعث بثمن باهظ. لقد صار التبغ بالنسبة لفرجينيا بمثابة السُكر بالنسبة لجزر الأنتيل. هكذا استعاد المساهمون الرأسماليون الابتسامة. لقد أصبحت المستوطنة على أعتاب أن تُصبحَ مربحة. هكذا تبنت شركة فيرجينيا عام 1618 برنامجا جديدا. كل مرشح للهجرة سيحصل على 50 أكرا Acre (الأكر يساوي خمسي هكتار: 2/5 هكتار) إذا دفع ثمن رحلته أو دفع ثمن سفر مُرشح آخر. إنها وسيلة جيدة لتشجيع الهجرة و تسهيل خلق مزارع شاسعة. لن يعود الانضباط المفروض في المستوطنة عسكريا و سيُحكمُ المستوطنون كما يُحكمُ الانجليز في الحاضرة الانجليزية. سيصير بمقدور المزارعين انتخاب ممثليهم الذين سيشاركون الحاكم  تشريع القوانين. في بضع سنوات, ترسخت المِلكية الفردية و المؤسسات النيابية في فرجينيا.

  المشكل الثالث: 

المشكل الثالث يتعلق بتعمير المستوطنة. ترغب شركة فيرجينيا لندن الآن في استقرار النساء في فرجينيا. و هو أمر لا بد منه لتمكين المستوطنين من تكوين عائلات و بالتالي تأمين التطور المتناغم للمستوطنة. كانت كل الوسائل مسموحة لإقناع الفتيات المستقيمات أخلاقيا و السليمات صحيا بأن مصلحتهن تكمن في الهجرة إلى أمريكا. فهناك ستجدن من دون شك أزواجا و طعاما وفيرا و لن تكن مضطرات لدفع ثمن الرحلة. هكذا توافدت السفن على مستوطنة جيمس تاون James Town. من أبريل إلى دجنبر 1618, ارتفع عدد السكان من 400 إلى ألف مستوطن. بعد 6 سنوات ارتفع إلى 4 آلاف. لكن عددهم تقلص إلى 1210 عام 1625 بسبب الارتفاع الكبير لمعدل الوفيات.

كانت للإنجليز القاطنين في شرق أنجليا East Anglia و ميدلاندز Midlands و الضاحية اللندنية دوافع كثيرة للهجرة إلى أمريكا. فقد عرفت الأرياف في انجلترا منذ سنوات عدة تحولات عميقة. لقد أُغلقت الآن الحقول  أمام الفلاحين الصغار من أجل السماح باستغلال أكثر ربحية و فُسح المجال لزراعة الحبوب و تربية المواشي. لقد اختفت الملكيات الجماعية. أولئك الفقراء الذين كانوا يكتفون بالقروض الجماعية تم إبعادهم عن الأرياف. لقد غادروا إلى المدن و صاروا مجرد هائمين لن تتأخر المستوطنات الأمريكية في اجتذابهم, هذا إذا لم تقم السلطات السياسية ذاتها بإرسالهم إليها. 

لقد تغيرت إنجلترا جذريا بين عامي 1620 و 1640. في نفس الوقت تواصل الازدهار التجاري و معه نشاط الشركات الخاصة المُساهمة. كل الشروط مواتية للاستيطان في أمريكا الشمالية: تبغٌ في فيرجينيا, و رؤوس أموال و رجال في انجلترا. في عام 1624, متدرعا بالمعاملات السيئة التي تعرض لها المستوطنون, قام الملك بحل شركة فيرجينيا لندن. لقد صارت فيرجينيا مستوطَنةً ملكية.

نهاية الجزء الثالث.

رابط الجزء الرابع:

  4- الحجاج المهاجرون الفارين بدينهم الذين أسسوا مستوطنة "انجلترا الجديدة" في أمريكا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق