الأحد، 13 يوليو 2014

"لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ؟" محمد حسن الوزاني. الجزء (1)



 "لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ" محمد حسن الوزاني. الجزء (1)
نبذة عن محمد حسن الوزاني (17 يناير 1910 - 9 شتنبر 1978)

هو سياسي و صحفي مغربي, يعتبر أحد كبار رموز الحركة الوطنية المغربية خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب (1912-1956). كان من القلائل الذين نجحوا في الجمع بين الثقافة الدينية التقليدية, التي نهل منها في مسقط رأسه بفاس, و الثقافة الغربية الفرنكفونية, التي اكتسبها خلال دراسته للعلوم السياسية في باريس, حيث كان أول مغربي يتحصل على ديبلوم في هذه العلوم, كما درس الصحافة و التاريخ. توجه إلى جنيف عند أمير البيان شكيب أرسلان حيث أصبح عضوا في هيئة تحرير مجلة "الأمة العربية" التي يُصدرها الأمير شكيب.

كان ظاهرة في المجتمع المغربي المحافظ حيث قاوم المستعمر الفرنسي بلغته و ثقافته, و كان من أوائل من حمل القلم كسلاح لنيل الاستقلال. أسس حزب الشورى و الاستقلال بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال, كما أصدر جريدة "عمل الشعب" L'action du peupleو هي أول جريدة ناطقة بالفرنسية تصدرها الحركة الوطنية. 


بعد الاستقلال شغل منصب وزير دولة في إحدى الحكومات, و فقد ذراعه اليمنى خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الحسن الثاني في الصخيرات عام 1971م, فتعلّم الكتابة بيده اليسرى حتى يستطيع مواصلة نضاله في مغرب ما بعد الاستقلال للوصول للنهضة المنشودة.

علاقته بالأندلس

بسبب كتاباته المعادية للسياسة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب, و خاصة كتابه "‬عاصفة‭ ‬على‭ ‬المغرب،‭ ‬أو‭ ‬أخطاء‭ ‬سياسية‭ ‬بربرية‮"‬، الذي تلقفه الأمير شكيب أرسلان ليشن به حملة ضد سياسة فرنسا في المغرب, أصبح محمد الحسن الوزاني غير مرغوب به في فرنسا و مُنع من دخول المغرب, فاضطر للمغادرة نحو سويسرا حيث التقى بالأمير أرسلان, لكن السلطات السويسرية بدورها ضاقت ذرعا بنشاطاته السياسية فغادرها إلى إيطاليا و من تم إلى إسبانيا. أراد في البداية الاستقرار بسبتة المحتلة لكنه مُنع من ذلك, ليستقر في العاصمة مدريد. هناك أسس "الجمعية العربية الإسلامية" و ربط علاقات جيدة مع الساسة الإسبان الذين تدخلوا لدى الحكومة الفرنسية كي تسمح له بالسفر إلى فرنسا و دخول المغرب.

 بعد قيام الجمهورية في إسبانيا عام 1931حاول الوزاني استثمار علاقاته الوطيدة مع التقدميين و رجال الجمهورية ليشرح لهم القضية المغربية و يكسب تعاطفهم معها. بفضل مجهوداته و مجهودات رجال وطنيين آخرين, قالت الحكومة الإسبانية على لسان وزيرها فرانثيثكو لاركو كاباييرو أنها تدرس احتمال انسحاب إسبانيا من شمال المغرب و تسليم السلطة لعصبة الأمم. لكن مشاكل الحكومة الجمهورية الداخلية و اندلاع الحرب الأهلية أقبرا هذا المشروع.

المرجع: * "سيرة محمد الحسن الوزاني": مؤسسة محمد الحسن الوزاني. * "محمد‭ ‬بن الحسن الوزاني .. مقـاوم على‭ ‬الطريقة‭ ‬الفرنسية" محمد أحمد عدة.

المغرب و التراث الثقافي الأندلسي
لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ؟ (الجزء الأول)

  بقلم محمد حسن الوزاني
(مجلة "الثقافة المغربية" : عدد 7 أبريل 1943)



نشرت (الثقافة المغربية) في عدد شعبان مقالا بحث فيه الصديق الشرايبي (1)عن (مدى تأثير ثقافة العرب في الأندلس و المغرب) و هو –حقا- موضوع هام, جدير بعناية الباحثين من المغاربة خاصة, و حقيق بأن يكون من البحوث القومية المغربية التي تعنى بها مجلة ك(الثقافة المغربية).

الشاعر عبد الهادي الشرايبي.
يلاحظ الكاتب أن العربية في الأندلس (أدت رسالتها على أكمل وجه, و أتت بالآيات البينات و المعجزات الباهرات, و قامت بأكثر مما كان يُنتظر منها) حتى أصبحت تلك البلاد محسودة من الشرق نفسه, موطن العربية, و مهد الإسلام و منشأ العرب الفاتحين.

أما في المغرب فقد كان الأمر بخلاف, فالعربية لم تنجح في وطننا نجاحها الباهر في الأندلس, حتى إن التاريخ ليجيب الباحث المتسائل بالسلب المطلق.

يقرر الباحث كل هذا, و مقصده –كما قال- البحث العلمي المجرد (و السعي بنصيب في بعث حركة جديدة في البلاد, و خلق نهضة قومية) واضحة الاتجاه صحيحة العماد. و كلا القصدين محمود مطلقا, و لكن ليس هذا موضوع المناقشة التي نحاولها – من جهتنا- قياما كذلك بالبحث العلمي المجرد, و مساهمة في بعث الحركة الجديدة, و إعلاء نهضتنا القومية على أساس من الصراحة و الثبوت المتين, و تلبية لرغبة الصديق الكاتب الذي رجا (أن تنهض همم الباحثين من الشباب) لينقبوا عساهم (يظفرون بما يخفف عن كاهل المغرب ذلك الحكم القاسي) العنيف إلى أجل.
ليست الثقافة نتيجة اللغة خاصة:

إننا لا نماري قط في هذه الحقيقة, و هي أن ثقافة العرب قد كان لها في الأندلس شأن عظيم لم تدركه الثقافة نفسها في مجال المغرب الواسع, لكننا لا نرى أولا أن نجاح العربية في الأندلس إنما يُعزى إليها خاصة, فليس صحيحا أبدا أن العربية هي التي أنجبت شخصيات كبيرة جديرة بالتخليد تُعد بالعشرات بل بالمئات, من بينها كبار الفلاسفة و الكتاب و فحول الشعراء و عظماء الأطباء و المؤرخين و الفلكيين و الجغرافيين و الرياضيين. فاللغة ليست هي العامل الوحيد, و لا العامل الأهم في رقي الأفكار و إنتاج العقول, إذ لو صح هذا لكان عرب الجزيرة الأقحاح –وهم أهل العربية- أسبق من الأندلسيين في تكوين نهضة علمية أدبية فنية على الأقل توازي ثقافة الأندلس الباهرة في وقتها. فلماذا تكون العربية قد كونت هذه الثقافة في الأندلس التي كان العرب فيها أقلية ضئيلة بالنسبة إلى مجموع السكان, بينما يكون شأنها غير هذا في موطنها الأصلي, و بين الناطقين بها فِطرة و سليقة؟

و لا يعترض علينا معترض بما كانت عليه الثقافة العربية في المشرق زمن الدولة العباسية –مثلا- فهذه مسألة ترجع إلى عوامل مختلفة كثيرة لا نتعرض لها هنا, و هي شبيهة ببعض العوامل التي ساعدت على ازدهار الثقافة بالأندلس كما سنرى بعد في الموطن المناسب من هذا البحث.

فلو كانت العربية هي السبب في إنشاء الثقافة الفكرية العامة لكان الحجاز –مثلا- ذا ثقافة واسعة النطاق, تنافس مختلف الثقافات الشرقية إذ ذاك, و تضاهي الثقافة العربية في الأندلس المسلمة, و لكن تاريخ الحجاز خاصة, و شبه الجزيرة العربية عامة, لا يحدثنا عن مثل هذا الأمر الذي نستنتج منه أن العربية – كغيرها من اللغات-  لم تكن في الأندلس و لا في غيرها السبب الوحيد أو العامل الأكبر في فتق الأذهان, و ثقافة العقول, و خصب الأفكار, و بعث الهمة العالمية, و استبحار المدنية الفكرية بصفة عامة.

بعد تقرير هذا على سبيل الاختصار نخلص إلى تفاصيل فكرة الأستاذ عبد الهادي الشرايبي, لنرى ما فيها من حق و صواب و إفراط و تفريط.

الثقافة ثمرة الرقي العام:

(نقول إن العربية ليست هي التي أنشأت ثقافة الأندلس, و أنجبت رجالها العظام في الآداب و العلوم, و إن كانت هي الأداة لتلك الثقافة و اللسان المعبر لأولئك الرجال, فالعرب الفاتحون – و قد كانوا أقلية- لم ينزلوا في أرض الأندلس و هم حاملون – زيادة على أسلحتهم و ذخائرهم – لثقافة عربية, فيها الفلسفة و الطب و علم الفلك و علم الجغرافيا, و علوم الرياضة, و إن كان فيهم الشاعر و الخطيب, لكن الشعر و فن الخطابة في ذلك العصر, لم يكونا هما الثقافة حقا, فالفتح الإسلامي بالأندلس لم يكن شبيها –مثلا- بالحملة التي قام بها نابليون في مصر, و التي كانت ترافقها حملة من العلماء مكنت المصريين –إذ ذاك- من أن يشاهدوا مظهرا جديدا من مظاهر الحياة لم يكن لهم في تاريخهم الأخير به عهد) (الدكتور محمد حسين هيكل) فإن ما نشأ في الأندلس من علم و ثقافة لم يكن سوى نتيجة لعوامل غير اللغة, سنبينها في موضع آخر من بحثنا هذا, و بصفة عامة نلاحظ أن الأندلس لم تحقق النهضة العلمية و لم تزدهر فيها الحركة الأدبية إلا في القرنين الثالث و الرابع, أي في أحسن عصور الدولة الأموية  حيث بلغ ارتقاء الأمة هناك شأوا بعيدا و ذروة عالية. فالعلم – في أي مكان, و في أي زمان- إنما يكون نتيجة الرقي العام, و هي حقيقة تاريخية اجتماعية سنفصل القول فيها استقبالا مكتفين هنا بما قررنا من أن الرقي –لا اللغة – هو الذي أوجد في الأندلس ما كان فيها من أنواع العلوم, و عناصر المعرفة, و ألوان الثقافة, و ما ظهر على مسرحها من الأدباء و العلماء و المفكرين.

 أدباء الأندلس و المغرب:

يقول السيد عبد الهادي الشرايبي, بينما الأمر هكذا في الأندلس (لا تكاد تجد مغاربة أقحاحا من هبة التربة المغربية الخالصة, ذوي شخصية و كفاءة تؤهلهم للوقوف في مصاف عظماء البلاد الأخرى إلا قليلا جدا قد يعدون على الأصابع, و نقصد من ذلك الرجال العالميين الذين تجاوزت شهرتهم بلادهم) فالباحث الفاضل يعترف – كما نرى- بأنه وجد في المغرب رجال و إن قلوا, يساوون رجال الأندلس في تلك الأوصاف. و هذا الاعتراف نفسه يلطف من الحكم القاسي (الذي ينوء به كاهل المغرب إلى أجل مسمى) كما يبين لنا ذلك الإقرار أن التاريخ لا يجيب – كما قال صديقنا الباحث – بالسلب المطلق متى سألناه هل أنتجت العربية في المغرب – على حد تعبير الكاتب- مثل ما أنتجت من الرجال المثقفين في الأندلس؟ ثم نلاحظ زيادة أن رجال الأندلس لم يكونوا عالميين بكل ما لهذه الكلمة من مدلول. فعالميتهم كانت محدودة, و مقتصرة على البلاد الإسلامية التي كانت تُعنى بشؤون الأندلس و أخبار رجالها. و حيث اقتصر حضرة الكاتب على الناحية الأدبية فذكر أنه لم يوجد في ميدان الشعر و مضمار الكتابة من يقف إلى جنب ابن زيدون, و ابن هانئ, و ابن عبد ربه, و ولادة, و ابن الخطيب, و ابن سهل و المعتمد بن عباد (بصفته أديبا فقط) فإنا نورد هنا على سبيل المثال ما أثبته المؤرخ عبد الواحد المراكشي في كتابه (المعجب في تلخيص أخبار المغرب) من أن أبا عبد الله محمد بن حبوس – و هو من أهل فاس- كانت طريقته في الشعر على نحو طريقة محمد بن هانئ الأندلسي في قصد الألفاظ الرائعة و القعاقع المهولة, و إيثار التقصير, إلا أن محمد بن هانئ كان أجود منه طبعا, و أحلى مهيعا (2). فنستفيد من هذا أنه وجد في المغاربة من سار على منهاج أدباء الأندلس و قلدوهم في محاسنهم و عيوبهم. و ابن هانئ لم يكن في فنه مثال الكمال الذي لا يجارى كما يظهر من قول المراكشي الذي كان ذا ذوق أدبي فائق لا يتهم, و هو نفسه من أدباء المغرب الأفذاذ, و كُتابه الأعلام الذين يضارعون أدباء الأندلس و كتابها النبهاء, و لو بحثنا عن غيره في ماضي المغرب المجهول لألفينا له نظائر في الشعر و الكتابة. و هذه مسألة ما أجدر أدباءنا الباحثين بصرف عنايتهم إليها كي يظهروا للمغرب شخصية من الناحية الأدبية, و إنا لا نريد أن تفوتنا هذه الفرصة دون أن نتوجه إليهم برغبتنا المُلحة في أن ينهضوا للكتابة في هذا الموضوع الخطير.

أقطاب العلم و جهابذة الآداب في عصور التاريخ المغربي:

و مجلة (الثقافة المغربية) تكون جد سعيدة بتشجيع حملة الأقلام في بلادنا على الاضطلاع بمثل هذا البحث, و إذاعة ما يحققونه من النتائج في هذا السبيل خدمة لتاريخ الثقافة العربية القومية, و قياما بحق مغربنا الناهض, و إنا لمساعيهم و ثمرات أقلامهم لمنتظرون, و ظننا أن ما نعهده فيهم من همة مغربية و غيرة قومية لا يجعلنا نردد مع القائل: 
لقد أسمعت لو ناديت حيا ***و لكن لا حياة لمن تنادي

نعود إلى ما كنا بصدده فنقول: إنه نبغ في المغرب رجال يقفون في مصاف عظماء الأندلس, و قد ذكر منهم الأخ الشرايبي نفسه اثنين هما: القاضي عياض السبتي, و أبو العباس المقري صاحب الموسوعة الأندلسية الخالدة التي (لولاها – كما قال بحق صديقنا – لما سجلت حضارة الأندلس و لا ازدهار ثقافة العرب فيها). و هذا أيضا ابن عذاري المراكشي قد تحدث عن الأندلس في كتابه: (البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس و المغرب) و هو – كما قال العلامة المطلع الأمير شكيب أرسلان – خير كتاب عرّف بأخبار الأندلس.

و إن ما كتبه المقري و ابن عذاري و غيرهما لمن الحسنات العظيمة التي أسداها علماء المغرب لتراث الأندلس العام. و التاريخ حافل بالصنائع الجليلة و طافح بالأيادي البيضاء التي للمغرب على الأندلس, سواء في العلم أو في السياسة. و سنقف في بحثنا هذا من ذلك كله على معالم و آثار تتطأطا لها الجباه و تعنو لها القلوب. 

هجرة العلماء و الأدباء الأندلسيين إلى المغرب:

يقول صديقنا الشرايبي: (إن أعجب ما في فقر المغرب الأدبي أن الحالة على ما كانت عليه بقيت بالرغم من اتصال القطرين, و تقاطر المهاجرين من الأندلس و غيرها إلى المغرب, فمع هذا ظل المغرب راكدا جامدا, و هذه مسألة تحتاج إلى بحث دقيق, و لا نظن أن صديقنا قد وفاها حقها من التمحيص و الجلاء. فقد كان اتصال المغرب بالأندلس محكما وثيقا منذ عهد الفتح الذي تولاه القائد المغربي القح طارق بن زياد الطنجي. و قد تمازجت و اختلط كثير من عناصر سكان القطرين و نزل بأرض المغرب عامة, و بفاس خاصة, عدد كبير من مهاجري الأندلس الذين لا شك أنه كان فيهم العلماء الكبار و الأدباء الأعلام, على اختلاف طبقاتهم و مراتبهم. فقد تكونت –ابتداء- عدوة الأندلس بفاس من العائلات الأندلسية القرطبية التي طردها الحكم الاول من ولاية قرطبة عقب ثورة الربض في سنة 198 هجرية. و في دائرة المعارف الإسلامية أن الحكم قرر بعد الثورة أن ينفي من أرض الأندلس كل سكان ربض قرطبة الذين نجوا من المذبحة فهاجر عشرون ألف أسرة ذهب ثلثاهم إلى مصر و منها إلى أقريطش, و ذهب الباقون إلى فاس و استوطنوا الحي الذي يسمى عدوة الأندلس).

و علماء الأندلس بالمغرب كثيرون, نذكر منهم: أبا الحسن علي بن موسى بن علي بن موسى بن محمد بن خلف الأنصاري السالمي الجياني المعروف بابن النقرات نزل بفاس, و إليه ينسب الكتاب المسمى بشذور الذهب في الكيمياء, و أبا محمد الغالب ابن يوسف السالمي, كان عالما بالأصول, استوطن سبتة, ثم مراكش التي توفي بها سنة 576ه, و أبا جعفر محمد بن حكم ابن محمد ابن أحمد صاحب مدينة سالم, و قد نزل بفاس و أفتى بها و ولي أحكامها و أقرأ العربية و كان ذا حظ من علم الكلام, و له شرح على الإيضاح لأبي علي الفارسي, و توفي بتلمسان سنة 537ه حسب ما ورد في ترجمة ابن الأبار له, و أبا عبد الله محمد ابن عبد الرحمان بن محمد الرعيني السرقسطي, الملقب بالركن, كان فقيها متحققا بعلم الكلام متقدما فيه, يناظر عليه في الإرشاد لأبي المعالي و غيره, تولى قضاء معدن عوان بمقربة من مدينة فاس, و توفي عام 598ه, و أبا بكر عبد الله بن يحي بن عبد الله ابن محمد ابن ابراهيم بن عمير الثقفي الذي توفي بفاس سنة 529 كما ذكر ابن حبيش؛ و أبا الحكم عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن غلندة الأموي من سرقسطة, و كان أديبا شاعرا و طبيبا ماهرا, و كان صناع اليدين أبرع الناس خطا, و أنفسهم ضبطا و كتب عِلما كبيرا توفي بمراكش سنة 581ه كما ذكر ابن الأبار في التكملة, و أبا بكر يحي بن همام بن يحي السرقسطي, المعروف بابن أرزاق, كان من أهل الأدب مع براعة الخط, و كتب ليوسف بن تاشفين ثم لابنه علي, و أقام بمراكش آخر المائة الخامسة, عن ابن الأبار, و أبا عبد الله محمد بن عيسى بن القاسم الصدفي, نزل بفاس, و كان فقيها و أديبا شاعرا, استكتبه ابن الملجوم في قضائه بمكناسة و استخلفه, و توفي عام 529 ه عن ابن الأبار؛ هذا قلّ من كثر, و لو شئنا الزيادة لوقعنا في إسهاب يضيق عنه هذا البحث.

فاس قاعدة علم و حضارة:

و قد كانت فاس, في عهد الموحدين قاعدة علم و حضارة, و إلى هذا أشار المؤرخ المراكشي حيث قال: (و مدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا, -أي وقت تأليف كتابه المعجب و هو سنة 621ه- و موضع العلم من اجتمع فيها علم القيروان و علم قرطبة, إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس كما كانت القيروان حاضرة المغرب. فلما اضطرب أمر القيروان كما ذكرنا بعيث العرب فيها و اضطراب أمر قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن أبي عامر و ابنه. رحل من هذه و هذه من كان فيهما من العلماء و الفضلاء من كل طبقة فرارا من الفتنة. فنزل أكثرهم مدينة فاس. فهي اليوم على غاية الحضارة, و أهلها في غاية الكيس و نهاية الظرف, و لغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم. و ما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب, و بحق ما قالوا من ذلك...) (3).

فهذا كلام له حظ من النظر و الاعتبار. و هي شهادة أدلى بها المؤرخ الأديب بيانا لحالة المغرب عامة, و فاس خاصة في ذلك العهد من الوجهة العمرانية و الثقافية. و قد توالت وفود العلماء و النبغاء من الأندلس إلى المغرب طوال العصر الذي ملك فيه المغرب بلاد الأندلس و سيطرت عليها دوله المتعاقبة ابتداءا من دولة المرابطين على عهد يوسف بن تاشفين. و كان كثير من موظفي الدول المغربية من وزراء, و قضاة, و كتاب, و أطباء أندلسيي الأصل و النشأة.

هل تأثر المغاربة في ثقافتهم بأهل الأندلس؟

إن وفود هؤلاء المهاجرين إما بقصد الاستيطان نهائيا, و إما بقصد القيام بوظائف الدولة الحاكمة قد كان له بلا شك تأثير من حيث تكوين حركة علمية بالجهات التي أقاموا بها. و تخريج تلاميذ من المغاربة في مختلف العلوم المتداولة في تلك العصور, و هي نظيرة العلوم الموجودة إذ ذاك بالأندلس. فهذه ناحية من البحث العلمي يجدر بالباحثين منا أن يستجلوا غوامضها و يعلنوا الحقيقة عنها خدمة للعلم و قياما بالواجب لتاريخ المغرب و مجده الأثيل. و بهذه المناسبة نهيب بهم للقيام بهذا البحث القيم الطريف و هو: آثار الأندلسيين في الآداب العربية و الثقافة العامة بالمغرب الأقصى. فلا شك أن هذا البحث ليس بعقيم, و أنه سيهدي إلى إحدى الغوامض – و ما أكثرها – في تاريخنا الفكري العام. و سيغني تراثنا العلمي الذي مازال حقه مجهولا, و ما فتئ يحمل من تقصيرنا أوزارا. فالأمل وطيد في أن يجد الأدباء في كلامنا ما يحفزهم للعمل الصالح في هذا السبيل.

و على سبيل المثال لما تقدم نذكر ما كتبه ابن خلدون إذ قال: (و أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب  بها و من خلفهم من البربر و تغلبت عليهم أمم النصرانية, فانتشروا في عدوة المغرب و إفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد (آخر القرن الثامن الهجري) و شاركوا أهل العمران, بما لديهم من الصنائع و تعلقوا بأذيال الدولة, فغلب خطهم على الخط الإفريقي و عفّى عليه) (4).

فهذه إشارة واضحة إلى ما كان للأندلسيين من التأثير في المغاربة, و لا شك أن هذا التأثير قد تجاوز دائرة الخط, و امتد إلى حدود المعرفة بأنواعها, و عم نطاق الثقافة كلها في ذلك الزمان.

و بمناسبة ذكر النازحين من الأندلسيين إلى أصقاع المغرب نشير إلى ما وفق إليه العلامة الأديب القاضي السيد محمد السائح. و ذلك من العناية في مقدمة كتابه: (سوق المهر إلى قافية ابن عمرو) بالجاليات الأندلسية التي نزلت الرباط, و ما انتقل معها إليه من آداب الأندلس و ثقافتها. و حبذا لو ندب حضرة المؤلف نفسه للقيام ببحث يكون أوسع نطاقا, و أغزر مادة و أعظم فائدة, فيشمل جميع الجاليات العلمية الأندلسية التي استوطنت بقاع المغرب في مختلف الأعصار, و يوقفنا, بقدر المستطاع على ما كان لأولئك النزلاء من مآثر خالدة في ميدان الحياة العلمية بالوطن الجديد. و ما أجدر الباحثين من أدباء المغرب عامة, بأن يضطلعوا بمثل ما قام به العلامة السائح, فيكتبوا كذلك عن الجاليات الأندلسية التي حلت بجهاتهم و مدنهم, و يبينوا ما ساهمت به في الحركة الفكرية بالمغرب, و ما أغنت به آداب العربية و ثقافة الإسلام في هذه البلاد.

شهادة علماء الإفرنج للمغرب؟
المستشرق الفرنسي إفرست ليفي بروفنسال
و مما يشهد للمغرب عموما, و فاس خصوصا, بالمجد العلمي في أطوار التاريخ ما كتبه العلامة المستشرق م ليفي بروفنسال الذي يعد اليوم – بحق – من كبار الاختصاصيين في الشؤون المغربية و أعلام المؤرخين الذين دونوا و أجادوا عن الأندلس و حضارتها, قال في كلام نقتضب منه ما له علاقة بالموضوع (إن النخبة المثقفة في المجتمع الإسلامي المغربي هي الوارثة الفخورة – بحق – لتلك الحضارة الإسبانية المغربية في القرون الوسطى, تلك الحضارة التي ما يزال كثير من آثارها الناطقة في طول هذه البلاد و عرضها, يبعث على الإعجاب, و يدل من خلال ماضي المغرب على أمجد العصور في تاريخه). و فاس – في نظر المستشرق – مما ضمته من آثار خالدة, هي أكثر الحواضر دلالة على تلك الحضارة الباهرة, فاس التي تفتخر – فوق ك شيء – بشهرتها الأألفية كمدينة علمية مشهود لها بكونها حاضرة العالم الإسلامي بالمغرب الأقصى. و لا يتخيل أي واحد أبدا أن ينازع فاساً مكانتها العظمى, و نصيبها الأوفى في المساهمة التي كانت للمغرب في ذلك الازدهار الرائع الذي أدركته آداب اللغة العربية في جميع أطوار القرون الوسطى و العصور الحديثة, فعلماء فاس قد نافسوا علماء القيروان قبل أن يصبحوا الخلائف و الوارثين الروحيين لأقطاب العلم في قرطبة و إشبيلية و غرناطة. و هذه التقاليد الثقافية العظيمة قد بقيت مسالمة و ظلت محفوظة إلى زماننا هذا. و فاس هي المدينة الأولى بالمغرب التي نشأت فيها الطباعة, و إن الكتب التي خرجت, منذ أكثر من مائة سنة من مطابعها الحجرية, قد كشف للمستشرقين الأوربيين عما لم يخطر قبل ببال أحد, و ذلك من حيث غناء الخزائن العلمية التي بمساجدها, و ثروة المجموعات الخطية التي حفظتها عائلاتها الأدبية. و قد عملت فاس دائما لتبرير الدعاء الذي دعا به مؤسسها حيث تمنى لها أن تكون قبل كل شيء دار علم, و مركزا ممتازا للعلوم الإسلامية بالمغرب. و  في هذا إشارة إلى الدعاء الذي توجه به إلى الله المولى إدريس الأزهر – رضي الله عنه – حين شرع في بناء أساس المدينة, قال (اللهم اجعلها دار علم و فقه, يتلى فيها كتابك, و تقام بهاد حدودك, و اجعل أهلها متمسكين بالسنة و الجماعة ما أبقيتهم) (5).

الأندلس و المشكلة الجنسية؟

يتساءل الأخ الشرايبي عن السبب في عدم تأثر المغاربة بمثل ما تأثر به إخوانهم الأندلسيون من الوجهة العلمية الثقافية, فيجيب بأن السبب هو أن الأندلس لم تعرف ما يسمى بالمشكلة الجنسية, بل كانت وحدة تحيى حياة واحدة و تثقف بثقافة واحدة, و تتكلم بلغة واحدة هي العربية, و لهذا تسنى للغة العربية, - و صديقنا مصرّ على هذا الرأي – أن تؤدي رسالتها على الوجه الذي ذكره, و المغرب قد كان – في نظر الصديق الباحث – على نقيض الأندلس من حيث استحكام العصبية الجنسية في أهله و سيطرة العجمية البربرية على ألسنة جميع سكانه, الأمر الذي استحال معه تأثير الأقلية العربية في أبنائه الأصليين الأكثرين عددا و تأثر هؤلاء بأولئك, كأن الفاتحين من العرب قد كانوا على جانب عظيم من العلم و الثقافة, و كأن العربية قد كانت – زمن الفتح – لغة تدوين للعلوم و الآداب و الفنون التي لم تكن مزدهرة, و التي منها تتكون الثقافة حقا.

أما أن الأندلس لم تعرف المشكلة الجنسية فهذا ما ينفيه التاريخ نفيا تاما. قال مؤرخ الأندلس المستشرق الكبير ليفي بروفنسال في كتابه القيم : (إسبانيا المسلمة في القرن العاشر) ما نُعرّبه باختصار: (إن كلمة أندلس كانت دائما عبارة عن أشد العناصر الجنسية اختلافا و تباينا, و سرعان ما أصبحت تدل على الفاتحين المسلمين و الإسبانيين الأهالي الذين كانوا يقطنون في الأراضي المفتوحة المحتلة, سواء اعتنق هؤلاء ديانة الفاتحين أم بقوا على دينهم الأول, و في إسبانيا نفسها يظهر أن كلمة (أندلس) لم تدل قط إلا على وحدة خيالية, و ذلك بالرغم عما وقع حتما من اختلاط السكان المختلفين أصلا, بعد مرور أجيال قلائل في القرون الأولى من الفتح الإسلامي, ففي جميع عصور هذا الاحتلال كانت في إسبانيا المسلمة مشكلة جنسية عويصة. فأمراء الإسلام لم يقتصروا على قمع الثورات التي كانت تقوم بين المغلوبين و يستفحل أمرها أحيانا, و التي كانت تصطبغ بصبغة القومية الحقيقية, بل اضطر الأمراء أحيانا, إلى مواجهة صعوبات خطيرة كانت تثيرها الجماعات الإسلامية النازحة من الشرق و إفريقية و المغرب إلى شبه الجزيرة الأندلسية).

المصدر: محمد حسن الوزاني "حرب القلم" الجزء 6. صفحة 93-107. إصدار مؤسسة محمد حسن الوزاني. 

الهوامش (من إضافة هشام زليم): 

(1) عبد الهادي بن عبد الكريم الشرايبي (فاس 1910- الدار البيضاء 1987). شاعر و كاتب مغربي, من رجال الحركة الوطنية الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي للمغرب.

(2) "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد بن علي المراكشي (توفي 647 ه). الصفحة 149. طبعة دار الكتب العلمية.


(3) "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد بن علي المراكشي (توفي 647 ه). الصفحة 257. طبعة دار الكتب العلمية.

(4)  مقدمة ابن خلدون ، ص 750 – 751


(5) كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري.ج 36/2.







 

"لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ؟" محمد حسن الوزاني. الجزء (2)


"لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ" محمد حسن الوزاني. الجزء (3)


صلة الرحم بالأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق