"لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ" محمد حسن الوزاني. الجزء (2)
نبذة عن محمد حسن الوزاني (17 يناير 1910 - 9 شتنبر 1978)
هو
سياسي و صحفي مغربي, يعتبر أحد كبار رموز الحركة الوطنية المغربية خلال
فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب (1912-1956). كان من القلائل الذين نجحوا في
الجمع بين الثقافة الدينية التقليدية, التي نهل منها في مسقط رأسه بفاس, و
الثقافة الغربية الفرنكفونية, التي اكتسبها خلال دراسته للعلوم السياسية
في باريس, حيث كان أول مغربي يتحصل على ديبلوم في هذه العلوم, كما درس
الصحافة و التاريخ. توجه إلى جنيف عند أمير البيان شكيب أرسلان حيث أصبح
عضوا في هيئة تحرير مجلة "الأمة العربية" التي يُصدرها الأمير شكيب.
كان ظاهرة في المجتمع المغربي المحافظ حيث قاوم المستعمر الفرنسي بلغته و
ثقافته, و كان من أوائل من حمل القلم كسلاح لنيل الاستقلال. أسس حزب
الشورى و الاستقلال بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال, كما أصدر جريدة "عمل
الشعب" L'action du peupleو هي أول جريدة ناطقة بالفرنسية تصدرها الحركة
الوطنية.
بعد الاستقلال شغل منصب وزير دولة في إحدى الحكومات, و فقد ذراعه اليمنى
خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الحسن الثاني في الصخيرات عام 1971م,
فتعلّم الكتابة بيده اليسرى حتى يستطيع مواصلة نضاله في مغرب ما بعد
الاستقلال للوصول للنهضة المنشودة.
بسبب كتاباته المعادية للسياسة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب, و خاصة
كتابه "عاصفة على المغرب، أو
أخطاء سياسية بربرية"، الذي تلقفه الأمير شكيب أرسلان ليشن به حملة
ضد سياسة فرنسا في المغرب, أصبح محمد الحسن الوزاني غير مرغوب به في فرنسا و
مُنع من دخول المغرب, فاضطر للمغادرة نحو سويسرا حيث التقى بالأمير
أرسلان, لكن السلطات السويسرية بدورها ضاقت ذرعا بنشاطاته السياسية فغادرها
إلى إيطاليا و من تم إلى إسبانيا. أراد في البداية الاستقرار بسبتة
المحتلة لكنه مُنع من ذلك, ليستقر في العاصمة مدريد. هناك أسس "الجمعية
العربية الإسلامية" و ربط علاقات جيدة مع الساسة الإسبان الذين تدخلوا لدى
الحكومة الفرنسية كي تسمح له بالسفر إلى فرنسا و دخول المغرب.
بعد قيام الجمهورية في إسبانيا عام 1931حاول الوزاني استثمار علاقاته
الوطيدة مع التقدميين و رجال الجمهورية ليشرح لهم القضية المغربية و يكسب
تعاطفهم معها. بفضل مجهوداته و مجهودات رجال وطنيين آخرين, قالت الحكومة
الإسبانية على لسان وزيرها فرانثيثكو لاركو كاباييرو أنها تدرس احتمال
انسحاب إسبانيا من شمال المغرب و تسليم السلطة لعصبة الأمم. لكن مشاكل
الحكومة الجمهورية الداخلية و اندلاع الحرب الأهلية أقبرا هذا المشروع.
المرجع: * "سيرة محمد الحسن الوزاني": مؤسسة محمد الحسن الوزاني. * "محمد بن الحسن الوزاني .. مقـاوم على الطريقة الفرنسية" محمد أحمد عدة.
رابط الجزء الأول: "لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ" محمد حسن الوزاني. الجزء (1
رابط الجزء الأول: "لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ" محمد حسن الوزاني. الجزء (1
المغرب و التراث الثقافي الأندلسي
لماذا اختلف المغرب و الأندلس في مستواهما الثقافي العامّ؟ (الجزء الثاني)
بقلم محمد حسن الوزاني
(مجلة "الثقافة المغربية" : عدد 8 ماي 1943 )
ما هو شعب الأندلس؟
لا نتعجب من أن تكون الأندلس قد نشأت و استحكمت فيها مشاكل جنسية شديدة الخطورة, و ثارت بين أهلها – في مختلف الأزمان – أعاصير سياسية كانت وبالا على الأمن و النظام, و دحرجت الأمة حتى أبادتها و جعلتها في الغابرين. فالشعب الأندلسي لم يكن جنسا واحدا, بل كان مزيجا من الأجناس, و خليطا من الأقوام, سنحدث عنهم تفصيلا لما تقدم من الإجمال:
1 -المسالمة, و المولدون: هم المسلمون من الإسبانيين. فاللفظ الأول كان يدل على الإسبان الذين دخلوا في الإسلام, بينما كان يطلق اللفظ الثاني على غير العرب الذين ولدوا من آباء مسلمين, و ربوا على الديانة الإسلامية. أما الإسبان الذين بقوا على مسيحيتهم فكانوا يدعون بالعجم و كان المولدون – في عهد الأمويين – أكثر سكان مملكة قرطبة, و قد اندمجوا في الإسلام حتى غدوا – بعد أجيال – لا يميزون عن المسلمين المهاجرين إلا بصعوبة, و ضخم عددهم خصوصا ابتداءا من عهد عبد الرحمان الثاني, و ذلك عقب دخول كثير من المسيحيين في الإسلام, و احتفظ بعضهم بأسمائهم العائلية الإسبانية.
2 -الجاليات العربية: كان العرب سكان حواضر في عهد الأمويين, و كانوا إما عدنانيين أو قحطانيين. أما القرشيون من العدنانيين فكانوا أعلى مرتبة من الوجهة الاجتماعية, خصوصا لما أطلق هذا الاسم على العائلة الحاكمة, أي الدولة الأموية, و كان القحطانيون أعظم السكان العرب بالأندلس, و كانوا نازلين شرق الأندلس و غربها خاصة, و انضافت إلى هؤلاء العرب طائفة أخرى: هم جند بلج بن بشر, و كانوا من الشام, و شرق الأردن, و فلسطين و مصر, و استوطنوا في نواح مختلفة بالأندلس, و كانت الأرستقراطية العربية ساكنة بالحواضر في جنوب إسبانيا، وتركت للمولدين مهمة القيام بفلح الأراضي التي كانت على ملكهم. وقد نزح كثير من عرب الحواضر إلى قرطبة لما أصبحت الحياة فيها حياة رفاهية و نعيم. وما أكثر الثورات التي قامت بها الجماعات العربية النازلة بالأندلس ثم إن الجالية العربية كانت منشقة على نفسها، فكان القيسيون مثلاًَ في خلاف مستمر مع اليمنيين، وكان أشراف العرب يثيرون الخلافات بسبب مطامعهم في السيادة و تنافسهم عليها (وكان عرب الأندلس ـ كما يقول ـ المقري يتميزون بالقبائل و العمائر و البطون و الأفخاد، إلى أن قطع ذلك المنصور ابن أبي عامر).
3ـ البربر: كان أكثر البربر بالأندلس سكان بادية؛ وبينما استقرت الهجرة العربية إلى الأندلس ابتداء من القرن التاسع الميلادي كانت هجرة البربر إليها متواصلة إلى عهد الموحدين. وقد ساعدت على هذه الهجرة سياسة الناصر والحكم الثاني؛ وبالأخص سياسة المنصور ابن أبي عامر. وكان البربر في مناطق الجبال، كما هو شأنهم في المغرب. ويمكن القول بأن القسم الأكبر من جنوب البلاد وغربها كان يسكنه البربر خاصة، وذلك ابتداء من القرن العاشر. (القرن الرابع الهجري) بينما كانت الجهة الشرقية عربية العناصر خاصة. ويذكر المقري ما يشير إلى صحة هذا قال: (وأما زي أهل الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا و لا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك)، فالعمامة إفريقية، والقلنسوة شرقية. وقد كان البربر ـ بسبب تيار الهجرة المستمرة ـ أغلب السكان المسلمين المهاجرين، الأمر الذي ساعدهم على القيام في وجه العرب. وقد كانت ثورتهم الأولى العامة سنة 123 هـ, فالبربر بعد نزولهم بأرض الأندلس لم يطرحوا طبيعتهم الثورية ولم يفارقهم نزوعهم الفطري إلى الاستقلال، ولا هيامهم بنزع كل سيادة والخروج عن كل سلطة. ولم يكونوا قط غافلين عما كان يقع في موطنهم الأول، بل كانوا يرقبون ما يجري فيه من حوادث وانقلابات. فكل ثورة في المغرب كانت لها أختها بين البربر بالأندلس. وقد ظلت الاضطرابات البربرية لا تهدأ لها ثائرة إلى قيام الدولة الأموية.
4- الموالي أو الصقالبة: و كان بإسبانيا عامة و بقرطبة خاصة طبقة اجتماعية ظل أمرها في ازدياد منذ نصف القرن العاشر, و هي طبقة الموالي, و هم الصقالبة الذين كانوا أسارى أوربيين مجندين في الجيوش أو قائمين بخدمة الأمراء في قصورهم. وقد استطاع كثير منهم أن يتحرروا من الأسر و الرق و يصبحوا من أهل الثراء و اليسار, و يتخذوا لهم موالي, و قاموا بدور عظيم في التاريخ السياسي, و كان لهم شأن كبير في الهيئة الاجتماعية. و قد استعملهم بعض الخلفاء لمقاومة نفوذ أشراف العرب. و في أواخر الدولة الأموية كان لهم أسوأ أثر في مملكة قرطبة, إذ كانوا أصحاب دسائس و مؤامرات. و أخيرا كونوا لهم حزبا بجماعة الفتى حيران, و إلى هذا الحزب انتسب أمراء طرطوشة و بلنسية و دانية.
5- المسيحيون: من سكان الأندلس المسلمة كثير من الإسبان الذين لم يسلموا و هم المسيحيون, و كانوا يعاملون معاملة حسنة منذ الفتح, و حتى إن اضطهدوا أحيانا في زمن المرابطين و الموحدين, فلم يكن اضطهادهم ناشئا عن تعصب, و إنما كانت تمليه الظروف السياسية, لأن الجماعات المسيحية إذ ذاك كانت تقوم بحركات أو تنزع إلى حركات ذات صبغة قومية, فكان هؤلاء الأقوام يؤخذون بشدة بصفتهم عصاة لا نصارى.
6-اليهود: و من سكان الأندلس الذين لم يسلموا اليهود, و كانوا عنصرا مهما في الحواضر أيام الخلافة. و قد عُوملوا كذلك معاملة طيبة حتى إن هذا حملهم على جلب كثير من يهود المشرق و مختلف بلاد البحر المتوسط, و كانوا دائما يتلقون الفاتحين المسلمين بصفتهم محررين و حماة, و كان أغلبهم بقرطبة, و صار أحبارهم ذوي ثقافة عربية واسعة.
تلك هي العناصر التي كان يتركب منها شعب الأندلس, ذكرنا هذه المعلومات عنها كما وردت في مواطن من كتاب (إسبانيا المسلمة) للمستشرق ليفي بروفنسال, و هو من المراجع التاريخية القيمة, و قد تحرى فيه صاحبه الصدق و الإنصاف في تصوير الحقيقة التاريخية عن الأندلس في أبهى عصورها.
الأندلسيون أهل ثورة و شقاق؟
فيما تقدم إشارات مبعثرة إلى ما كان عليه أهل الأندلس من هياج و خلاف. و نرى من المفيد أن نثبت هنا بعض آراء المؤرخين المسلمين في المسألة التي يجب أن نبدد ما عسى أن يحوم حولها من الشكوك و الشبهات. قال ابن سعيد في حديثه عن قرطبة:
(و لأهلها رياسة و وقار, لا تزال سمة العلم و الملك متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس فضولا و أشدهم تشغيبا, و يضرب بهم المثل – ما بين أهل الأندلس- في القيام على الملوك و التشنيع على الولاة و قلة الرضا بأمورهم. حتى إن السيد أبا يحي أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عنه ولايتها: كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال: مثل الجمل, إن خففت عنه الحمل صاح, و إن أثقلته صاح, ما ندري أين رضاهم فنقصده, و لا أبن سخطهم فنتجنبه, و ما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق؛ و إن العزل عنها لِما قاسيته من أهلها عندي ولاية. و إني –إن كلفت العود إليها – لقائل لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
و قال المقري: (و مذ وقعت الفتنة بالأندلس, اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد على إمام الجماعة, و صار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك, و مرنوا على ذلك فصعب ضبطهم إلى نظام واحد, و تمكن العدوّ منهم بالتفرق و عداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة و الطمع إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن و بنيه. و تلك القواعد في رؤوسهم كامنة, و الثوار في المعاقل تثور, و تروم الكرة,...).
و ذكر الأمير شكيب في كتابه: (الحلل السندسية, في الأخبار و الآثار الأندلسية) أن خصلتين كانتا سبب بوارهم (أهل الأندلس) : ( أحدهما كثرة الانتفاض على ملوكهم, و حبّ الشقاق فيما بينهم؛ و الثانية شدة الانغماس في الترف).
و قال في موطن آخر: (يظهر للمتأمل أن جميع ما حل بالمسلمين من الفجائع في الأندلس إنما كان نتيجة انقسامهم و انشغالهم بمحاربة بعضهم بعضا و استظهارهم بملوك الإسبانيول على إخوانهم) و قد عد الأمير شكيب أهل قرطبة المسؤولين عن مصيبة الأندلس فقال (و هم كانوا السبب في سقوط الأندلس, لأن الفتنة التي أثاروها هي التي آلت إلى سقوط هيبة الخلافة, و سقوط هيبة الخلافة آل إلى ظهور ملوك الطوائف, و هؤلاء هم كانوا مبدأ اضمحلال الإسلام في الأندلس).
نظرة عامة في المشاكل الأندلسية:
قلنا إن الأندلس قد عرفت مشكلة جنسية عانتها طوال تاريخها إلا نادرا, و حتى في عهد عبد الرحمان الثالث – و سنتحدث عنه بعد هذا – لم تكن تلك المشكلة لتضمحل اضمحلالا, و إنما كانت إذ ذاك خامدة خمود النار تحت الرماد.
و نظرة عامة في المشاكل الداخلية الأندلسية تكفي في تصوير تلك المعضلة الجنسية التي كان عناصرها معصرات تمطر البلاد وابلا من الفتن و القلاقل و ستمكننا هذه النظرة العامة مما ينفي كل ريب و شك في أمر المسألة الجنسية بالأندلس.
فقبل الأمويين – أي في عصر ما يسمى بعصر الأمراء المستقلين في قرطبة – نشأت اضطرابات سياسية؛ و في زمن عبد الرحمان الداخل ظلت الفتن تنتشر في كل نواحي الأندلس من وراء ستار كما كان الحال أيام الولاة, و كانت الاضطرابات تنشأ باستمرار يوقظها طوائف المولدين من الإسبان الذين دخلوا في الإسلام حديثا. و فوق هذا كان البربر و العرب لا يلقون سلاحهم بسبب الأحقاد القبلية...
و لما مات مؤسس الدولة الأموية الجديدة عام 172ه (788م) كانت مملكة قرطبة قد قامت على أساس قوي من الوجهة السياسية و من حيث سيادتها لبقاع معينة...و كان نشر السلام في ربوع المملكة الجديدة أكبر هَمّ لخلفاء عبد الرحمان الأول...و في عام 202 ه نشبت ثورة واسعة النطاق في ربض قرطبة, و ذلك أن الفقهاء بزعامة يحي بن يحي أهاجوا الدهماء, فقام هؤلاء يحاولون أن يأخذوا قصر الأمير...و قد مضّى الحكم معظم أيام حكمه في القضاء على الفتن الداخلية التي كان يوقد نارها المولدون المتذمرون يحرضهم الفقهاء من وراء ستار... و بعد عام 245 ه زادت القلاقل السياسية في إمارة قرطبة, و أخذت حركات العصيان تظهر شيئا فشيئا في جميع الولايات التي كانت خاضعة نظريا لقرطبة. و كان يقود هذه الحركات المولدون الذين ظهروا في ثوب حكام مستقلين, و أبطال قوميين. و ظل أمراء قرطبة مشغولين حتى أول القرن العاشر بثورات أشراف المولدين و بدعاوى البيوتات العربية الكبيرة بعد ذلك. و في عهد محمد الأول بدأت ثورة طويلة الأجل في جنوب غربي الأندلس كان على رأسها زعيم مستقل, هو عمر بن حفصون...و لما اعتلى عبد الرحمان الثالث العرش بدأ في العمل و رسم لنفسه برنامجا يقوم على القضاء على الثورات التي كانت تروي أرض الأندلس بالدماء منذ قيام الدولة الأموية, و على أن يشل سلطان أشراف العرب الأقوياء, و أن يحمي الثغور الإسلامية في الشمال...و لا نرى لعبد الرحمان في الجزء الثاني من عهده أعمالا كثيرة قام بها بنفسه. على أن الأحزاب أخذت تنشأ حينذاك في قلب إمبراطورية قرطبة المتحدة الهادئة, و لم يكن لها شأن يُذكر في أول أمرها, و لكنها صارت أخيرا سببا لاضطرابات عظيمة في الشؤون الداخلية للخلافة. و كان في هذه الأحزاب حزب الصقالبة و حزب البربر؛ (و الصقالبة أسرى أخذوا في شرقي أوربا و أيطاليا و شمال الأندلس, و سرعان ما صاروا طائفة كبيرة في قرطبة, نجدهم في عهد الناصر يتبوءون مناصب عالية في الدولة بل و في الجيش). و لما تولى المنصور بن أبي عامر سياسة الدولة في عهد هشام الثاني (واصل سياسة عبد الرحمان الثالث و الحكم الثاني باسم هشام الثاني, و طبعها بشخصيته القوية, و ظل عهد السلام و العظمة الذي بدأه الناصر سائدا طوال دكتاتورية المنصور, فقضى بسرعة على نفوذ أشراف العرب و على الحزب الصقلبي قضاءا تاما).
و قد أدى الخلاف بين العامريين و حزب المتذمرين الذي تولى قيادته أمراء بني أمية المحرومون من العرش إلى سقوط الخلافة, و سادت الحرب في قرطبة و إمبراطورية الخلفاء, و زاد العنصر البربري بجنود صنهاجة التي أتى بها بنو عامر من إفرقية, و كان له شأن كبير في الإضطرابات التي جاءت بعد ذلك...ثم إن دولة الأمويين في الأندلس أخذت تتمزق بعد وحدتها السياسية منذ بدأ القرن الحادي عشر (القرن الخامس الهجري). و سرعان ما أعلنت ولايات إسبانيا الإسلامية إستقلالها تحت سلطان حكام من الإسبان أو الصقالبة أو البربر, و تكونت ممالك صغيرة يُعرف عهدها بعهد ملوك الطوائف.
من هذه الفقرات التي اقتطفناها باختصار من (دائرة المعارف الإسلامية) تتجلى لنا حقيقة البلاد الأندلسية في مختلف عصورها إلى العهد الذي أصبحت فيه الأندلس تحت حكم المغرب و سيطرة دوله. و إن تلك النتف لتوقفنا – بجلاء و دقة – على ما للمسألة العنصرية في الأندلس, و ما أدت إليه من مصاعب و معضلات, و قد كانت في الأمة داءا عُضالا و شرا مستطيرا.
هل كانت في الأندلس وحدة؟
إن أكبر ما اهتم به الخلفاء في ذلك الوسط الأندلسي المتشعب المضطرب هو العمل على إحلال النظام محل الفوضى, و تحقيق الوحدة حيث كانت الفرقة و الانقسام. و قد توسلوا إلى هدفهم بوسائل القوة و الشدة لأنها وحدها القادر على تمكينهم من بغيتهم, و هي إقامة الوحدة على جهاز محكم متين كما كان الأمر في خلافة المشرق و في ذلك يقول المقري : (لما صارت الأندلس لبني أمية, و توارثوا ممالكها, و انقاد إليهم كل أبي فيها, و أطاعهم كل عصي, عظمت الدولة بالأندلس و كبرت الهمم, و استتبت الأحوال و ترتبت القواعد...و كانت قواعدهم إظهار الهيبة و تمكن الناموس من قلوب العالم.).
و قد وفق الأمويون – كما يقول ليفي بروفنسال – إلى تحقيق منيتهم لمدة تكاد تبلغ قرنا, و كانت هي أزهى عصور الإسلام في الأندلس على الإطلاق, و لكن ما كادت تشرف الدولة على الانحطاط حتى تفككت عرى تلك الوحدة القائمة على الجبروت و الإرهاب, و عادت العناصر إلى اختلافها و تطاحنها, فكانت الفتنة الكبرى التي استأصلت الدولة و مزقتها شر ممزق, و انتشرت الحرب الأهلية في مختلف الجهات, و قامت الأحزاب تتطاحن في شبه الجزيرة الأندلسية, و كانت في تطاحنها هذا جنسية أكثر منها دينية. و لم تتكون هذه الأحزاب و تدرك ما كان لها من الشأن إلا بسبب السير الطبيعي الذي سارت عليه العناصر و العصبيات.
فالأندلس لم يتحد أمرها إلا في عهد كبار الخلفاء من الأمويين, و قد كان هذا الاتحاد سياسيا مجردا, بمعنى أنه كان ناشئا عن قوة الدولة في عهد ملوكها العظام, و كان موقوتا بزمن هؤلاء الحكام, و إلا فإن الأمويين أنفسهم لم يستطيعوا أن يوحدوا بين سكان الأندلس توحيدا عنصريا كاملا بحيث يصبحون شعبا واحدا بكل معنى الكلمة, و كذلك كان أمرهم في المشرق فإنهم لم يستطيعوا – كما تقول دائرة المعارف الإسلامية – أن يجعلوا الإمبراطورية العربية المترامية الأطراف وحدة متجانسة. و هذا هو الذي عجز العباسيون أيضا عن تحقيقه, و قد استطاع هؤلاء أن يكملوا توحيد العالم الإسلامي من الوجهتين العقلية و المعنوية, و كان الأمويون قد شرعوا في هذا من قبل.
الأندلس في عهد عبد الرحمان الثالث:
يقول الأستاذ ليفي بروفنسال ما نعربه بإيجاز : (من بين جميع عصور التاريخ الأندلسي الذي يمتاز بالاضطرابات و القلاقل التي لا تكاد تفتر يجب أن نستثني القرن العاشر الميلادي (القرن الرابع الهجري) فإنه شاهد نشوء الخلافة الإسبانية و بلوغها الذروة, كما شاهد تتويج عمل نشر الإسلام و بسط الأمن الذي قام به الأمراء الأمويون بقرطبة. فهذا القرن في تاريخ الإسلام الإسباني يمثل زمن فترة في حركة العصيان التقليدية و عصر هدنة داخلية لم يسبق لها مثيل ). و قد كتب المستشرق المذكور في دائرة المعارف الإسلامية ما نقتبسه بإيجاز: (ليس في تاريخ العصر الإسلامي في الأندلس عهد أزهى و أبهر من عهد عبد الرحمان الثالث, كان حكمه طويلا فقد حكم نصف قرن: من 300 إلى 350 (912-961م) فتمكن الأمير من تنفيذ سياسته تنفيذا متواصلا منقطع النظير و ساعدته هذه المزايا على أن يخمد مراكز الثورة المختلفة التي كانت لا تهدأ في الأندلس منذ أن دخلها المسلمون, و ظلت البلاد هادئة عشرات السنين. و في عهد عبد الرحمان الثالث و خليفته الحكم الثاني, و في العهد الذي كان الأمر في قبضة المنصور و المظفر الدكتاتوريين العامريين, بلغ ملك المسلمين في الأندلس أوج عظمته, و لم تستطع الأندلس بعد ذلك (أي في عصر المرابطين و الموحدين و لا في عهد النصيريين بغرناطة) أن تصل في نظر العالمين الإسلامي و المسيحي إلى النفوذ السياسي و المدنية الزاهرة اللذين بلغتهما في عهد هؤلاء , و لا في أن يكون لها الشأن الأول في الغرب و أوربا و إفريقية).
و باختصار لا يحق لنا بعد ما أسلفناه من الحقائق و ذكرناه من بيانات المؤرخين الذين هم عمدة في الموضوع أن ندعي أن الأندلس لم تكن فيها مشكلة جنسية, و أنها كانت شعبا واحدا آية في الاطمئنان و مثالا في التجانس من البداية إلى النهاية. فالوحدة – كما رأينا- إنما لمعت لمع البرق في سماء الأندلس, و لم تكن هي السائدة في تاريخها حتى يصح أن نجعلها السبب الرئيسي فيما بلغه ازدهار الثقافة الأندلسية من علو و اتساع و إنتاج. فكل ما يتخيله الإنسان من وحدة الأندلس إنما هو من قبيل المنية, و لو تحققت لكان شأن الأندلسيين في السياسة و العلم و الحكمة و الآداب غير شأنهم المعروف.
لا نتعجب من أن تكون الأندلس قد نشأت و استحكمت فيها مشاكل جنسية شديدة الخطورة, و ثارت بين أهلها – في مختلف الأزمان – أعاصير سياسية كانت وبالا على الأمن و النظام, و دحرجت الأمة حتى أبادتها و جعلتها في الغابرين. فالشعب الأندلسي لم يكن جنسا واحدا, بل كان مزيجا من الأجناس, و خليطا من الأقوام, سنحدث عنهم تفصيلا لما تقدم من الإجمال:
1 -المسالمة, و المولدون: هم المسلمون من الإسبانيين. فاللفظ الأول كان يدل على الإسبان الذين دخلوا في الإسلام, بينما كان يطلق اللفظ الثاني على غير العرب الذين ولدوا من آباء مسلمين, و ربوا على الديانة الإسلامية. أما الإسبان الذين بقوا على مسيحيتهم فكانوا يدعون بالعجم و كان المولدون – في عهد الأمويين – أكثر سكان مملكة قرطبة, و قد اندمجوا في الإسلام حتى غدوا – بعد أجيال – لا يميزون عن المسلمين المهاجرين إلا بصعوبة, و ضخم عددهم خصوصا ابتداءا من عهد عبد الرحمان الثاني, و ذلك عقب دخول كثير من المسيحيين في الإسلام, و احتفظ بعضهم بأسمائهم العائلية الإسبانية.
2 -الجاليات العربية: كان العرب سكان حواضر في عهد الأمويين, و كانوا إما عدنانيين أو قحطانيين. أما القرشيون من العدنانيين فكانوا أعلى مرتبة من الوجهة الاجتماعية, خصوصا لما أطلق هذا الاسم على العائلة الحاكمة, أي الدولة الأموية, و كان القحطانيون أعظم السكان العرب بالأندلس, و كانوا نازلين شرق الأندلس و غربها خاصة, و انضافت إلى هؤلاء العرب طائفة أخرى: هم جند بلج بن بشر, و كانوا من الشام, و شرق الأردن, و فلسطين و مصر, و استوطنوا في نواح مختلفة بالأندلس, و كانت الأرستقراطية العربية ساكنة بالحواضر في جنوب إسبانيا، وتركت للمولدين مهمة القيام بفلح الأراضي التي كانت على ملكهم. وقد نزح كثير من عرب الحواضر إلى قرطبة لما أصبحت الحياة فيها حياة رفاهية و نعيم. وما أكثر الثورات التي قامت بها الجماعات العربية النازلة بالأندلس ثم إن الجالية العربية كانت منشقة على نفسها، فكان القيسيون مثلاًَ في خلاف مستمر مع اليمنيين، وكان أشراف العرب يثيرون الخلافات بسبب مطامعهم في السيادة و تنافسهم عليها (وكان عرب الأندلس ـ كما يقول ـ المقري يتميزون بالقبائل و العمائر و البطون و الأفخاد، إلى أن قطع ذلك المنصور ابن أبي عامر).
3ـ البربر: كان أكثر البربر بالأندلس سكان بادية؛ وبينما استقرت الهجرة العربية إلى الأندلس ابتداء من القرن التاسع الميلادي كانت هجرة البربر إليها متواصلة إلى عهد الموحدين. وقد ساعدت على هذه الهجرة سياسة الناصر والحكم الثاني؛ وبالأخص سياسة المنصور ابن أبي عامر. وكان البربر في مناطق الجبال، كما هو شأنهم في المغرب. ويمكن القول بأن القسم الأكبر من جنوب البلاد وغربها كان يسكنه البربر خاصة، وذلك ابتداء من القرن العاشر. (القرن الرابع الهجري) بينما كانت الجهة الشرقية عربية العناصر خاصة. ويذكر المقري ما يشير إلى صحة هذا قال: (وأما زي أهل الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا و لا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك)، فالعمامة إفريقية، والقلنسوة شرقية. وقد كان البربر ـ بسبب تيار الهجرة المستمرة ـ أغلب السكان المسلمين المهاجرين، الأمر الذي ساعدهم على القيام في وجه العرب. وقد كانت ثورتهم الأولى العامة سنة 123 هـ, فالبربر بعد نزولهم بأرض الأندلس لم يطرحوا طبيعتهم الثورية ولم يفارقهم نزوعهم الفطري إلى الاستقلال، ولا هيامهم بنزع كل سيادة والخروج عن كل سلطة. ولم يكونوا قط غافلين عما كان يقع في موطنهم الأول، بل كانوا يرقبون ما يجري فيه من حوادث وانقلابات. فكل ثورة في المغرب كانت لها أختها بين البربر بالأندلس. وقد ظلت الاضطرابات البربرية لا تهدأ لها ثائرة إلى قيام الدولة الأموية.
4- الموالي أو الصقالبة: و كان بإسبانيا عامة و بقرطبة خاصة طبقة اجتماعية ظل أمرها في ازدياد منذ نصف القرن العاشر, و هي طبقة الموالي, و هم الصقالبة الذين كانوا أسارى أوربيين مجندين في الجيوش أو قائمين بخدمة الأمراء في قصورهم. وقد استطاع كثير منهم أن يتحرروا من الأسر و الرق و يصبحوا من أهل الثراء و اليسار, و يتخذوا لهم موالي, و قاموا بدور عظيم في التاريخ السياسي, و كان لهم شأن كبير في الهيئة الاجتماعية. و قد استعملهم بعض الخلفاء لمقاومة نفوذ أشراف العرب. و في أواخر الدولة الأموية كان لهم أسوأ أثر في مملكة قرطبة, إذ كانوا أصحاب دسائس و مؤامرات. و أخيرا كونوا لهم حزبا بجماعة الفتى حيران, و إلى هذا الحزب انتسب أمراء طرطوشة و بلنسية و دانية.
5- المسيحيون: من سكان الأندلس المسلمة كثير من الإسبان الذين لم يسلموا و هم المسيحيون, و كانوا يعاملون معاملة حسنة منذ الفتح, و حتى إن اضطهدوا أحيانا في زمن المرابطين و الموحدين, فلم يكن اضطهادهم ناشئا عن تعصب, و إنما كانت تمليه الظروف السياسية, لأن الجماعات المسيحية إذ ذاك كانت تقوم بحركات أو تنزع إلى حركات ذات صبغة قومية, فكان هؤلاء الأقوام يؤخذون بشدة بصفتهم عصاة لا نصارى.
6-اليهود: و من سكان الأندلس الذين لم يسلموا اليهود, و كانوا عنصرا مهما في الحواضر أيام الخلافة. و قد عُوملوا كذلك معاملة طيبة حتى إن هذا حملهم على جلب كثير من يهود المشرق و مختلف بلاد البحر المتوسط, و كانوا دائما يتلقون الفاتحين المسلمين بصفتهم محررين و حماة, و كان أغلبهم بقرطبة, و صار أحبارهم ذوي ثقافة عربية واسعة.
تلك هي العناصر التي كان يتركب منها شعب الأندلس, ذكرنا هذه المعلومات عنها كما وردت في مواطن من كتاب (إسبانيا المسلمة) للمستشرق ليفي بروفنسال, و هو من المراجع التاريخية القيمة, و قد تحرى فيه صاحبه الصدق و الإنصاف في تصوير الحقيقة التاريخية عن الأندلس في أبهى عصورها.
الأندلسيون أهل ثورة و شقاق؟
فيما تقدم إشارات مبعثرة إلى ما كان عليه أهل الأندلس من هياج و خلاف. و نرى من المفيد أن نثبت هنا بعض آراء المؤرخين المسلمين في المسألة التي يجب أن نبدد ما عسى أن يحوم حولها من الشكوك و الشبهات. قال ابن سعيد في حديثه عن قرطبة:
(و لأهلها رياسة و وقار, لا تزال سمة العلم و الملك متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس فضولا و أشدهم تشغيبا, و يضرب بهم المثل – ما بين أهل الأندلس- في القيام على الملوك و التشنيع على الولاة و قلة الرضا بأمورهم. حتى إن السيد أبا يحي أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عنه ولايتها: كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال: مثل الجمل, إن خففت عنه الحمل صاح, و إن أثقلته صاح, ما ندري أين رضاهم فنقصده, و لا أبن سخطهم فنتجنبه, و ما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق؛ و إن العزل عنها لِما قاسيته من أهلها عندي ولاية. و إني –إن كلفت العود إليها – لقائل لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
و قال المقري: (و مذ وقعت الفتنة بالأندلس, اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد على إمام الجماعة, و صار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك, و مرنوا على ذلك فصعب ضبطهم إلى نظام واحد, و تمكن العدوّ منهم بالتفرق و عداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة و الطمع إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن و بنيه. و تلك القواعد في رؤوسهم كامنة, و الثوار في المعاقل تثور, و تروم الكرة,...).
و ذكر الأمير شكيب في كتابه: (الحلل السندسية, في الأخبار و الآثار الأندلسية) أن خصلتين كانتا سبب بوارهم (أهل الأندلس) : ( أحدهما كثرة الانتفاض على ملوكهم, و حبّ الشقاق فيما بينهم؛ و الثانية شدة الانغماس في الترف).
و قال في موطن آخر: (يظهر للمتأمل أن جميع ما حل بالمسلمين من الفجائع في الأندلس إنما كان نتيجة انقسامهم و انشغالهم بمحاربة بعضهم بعضا و استظهارهم بملوك الإسبانيول على إخوانهم) و قد عد الأمير شكيب أهل قرطبة المسؤولين عن مصيبة الأندلس فقال (و هم كانوا السبب في سقوط الأندلس, لأن الفتنة التي أثاروها هي التي آلت إلى سقوط هيبة الخلافة, و سقوط هيبة الخلافة آل إلى ظهور ملوك الطوائف, و هؤلاء هم كانوا مبدأ اضمحلال الإسلام في الأندلس).
نظرة عامة في المشاكل الأندلسية:
قلنا إن الأندلس قد عرفت مشكلة جنسية عانتها طوال تاريخها إلا نادرا, و حتى في عهد عبد الرحمان الثالث – و سنتحدث عنه بعد هذا – لم تكن تلك المشكلة لتضمحل اضمحلالا, و إنما كانت إذ ذاك خامدة خمود النار تحت الرماد.
و نظرة عامة في المشاكل الداخلية الأندلسية تكفي في تصوير تلك المعضلة الجنسية التي كان عناصرها معصرات تمطر البلاد وابلا من الفتن و القلاقل و ستمكننا هذه النظرة العامة مما ينفي كل ريب و شك في أمر المسألة الجنسية بالأندلس.
فقبل الأمويين – أي في عصر ما يسمى بعصر الأمراء المستقلين في قرطبة – نشأت اضطرابات سياسية؛ و في زمن عبد الرحمان الداخل ظلت الفتن تنتشر في كل نواحي الأندلس من وراء ستار كما كان الحال أيام الولاة, و كانت الاضطرابات تنشأ باستمرار يوقظها طوائف المولدين من الإسبان الذين دخلوا في الإسلام حديثا. و فوق هذا كان البربر و العرب لا يلقون سلاحهم بسبب الأحقاد القبلية...
و لما مات مؤسس الدولة الأموية الجديدة عام 172ه (788م) كانت مملكة قرطبة قد قامت على أساس قوي من الوجهة السياسية و من حيث سيادتها لبقاع معينة...و كان نشر السلام في ربوع المملكة الجديدة أكبر هَمّ لخلفاء عبد الرحمان الأول...و في عام 202 ه نشبت ثورة واسعة النطاق في ربض قرطبة, و ذلك أن الفقهاء بزعامة يحي بن يحي أهاجوا الدهماء, فقام هؤلاء يحاولون أن يأخذوا قصر الأمير...و قد مضّى الحكم معظم أيام حكمه في القضاء على الفتن الداخلية التي كان يوقد نارها المولدون المتذمرون يحرضهم الفقهاء من وراء ستار... و بعد عام 245 ه زادت القلاقل السياسية في إمارة قرطبة, و أخذت حركات العصيان تظهر شيئا فشيئا في جميع الولايات التي كانت خاضعة نظريا لقرطبة. و كان يقود هذه الحركات المولدون الذين ظهروا في ثوب حكام مستقلين, و أبطال قوميين. و ظل أمراء قرطبة مشغولين حتى أول القرن العاشر بثورات أشراف المولدين و بدعاوى البيوتات العربية الكبيرة بعد ذلك. و في عهد محمد الأول بدأت ثورة طويلة الأجل في جنوب غربي الأندلس كان على رأسها زعيم مستقل, هو عمر بن حفصون...و لما اعتلى عبد الرحمان الثالث العرش بدأ في العمل و رسم لنفسه برنامجا يقوم على القضاء على الثورات التي كانت تروي أرض الأندلس بالدماء منذ قيام الدولة الأموية, و على أن يشل سلطان أشراف العرب الأقوياء, و أن يحمي الثغور الإسلامية في الشمال...و لا نرى لعبد الرحمان في الجزء الثاني من عهده أعمالا كثيرة قام بها بنفسه. على أن الأحزاب أخذت تنشأ حينذاك في قلب إمبراطورية قرطبة المتحدة الهادئة, و لم يكن لها شأن يُذكر في أول أمرها, و لكنها صارت أخيرا سببا لاضطرابات عظيمة في الشؤون الداخلية للخلافة. و كان في هذه الأحزاب حزب الصقالبة و حزب البربر؛ (و الصقالبة أسرى أخذوا في شرقي أوربا و أيطاليا و شمال الأندلس, و سرعان ما صاروا طائفة كبيرة في قرطبة, نجدهم في عهد الناصر يتبوءون مناصب عالية في الدولة بل و في الجيش). و لما تولى المنصور بن أبي عامر سياسة الدولة في عهد هشام الثاني (واصل سياسة عبد الرحمان الثالث و الحكم الثاني باسم هشام الثاني, و طبعها بشخصيته القوية, و ظل عهد السلام و العظمة الذي بدأه الناصر سائدا طوال دكتاتورية المنصور, فقضى بسرعة على نفوذ أشراف العرب و على الحزب الصقلبي قضاءا تاما).
و قد أدى الخلاف بين العامريين و حزب المتذمرين الذي تولى قيادته أمراء بني أمية المحرومون من العرش إلى سقوط الخلافة, و سادت الحرب في قرطبة و إمبراطورية الخلفاء, و زاد العنصر البربري بجنود صنهاجة التي أتى بها بنو عامر من إفرقية, و كان له شأن كبير في الإضطرابات التي جاءت بعد ذلك...ثم إن دولة الأمويين في الأندلس أخذت تتمزق بعد وحدتها السياسية منذ بدأ القرن الحادي عشر (القرن الخامس الهجري). و سرعان ما أعلنت ولايات إسبانيا الإسلامية إستقلالها تحت سلطان حكام من الإسبان أو الصقالبة أو البربر, و تكونت ممالك صغيرة يُعرف عهدها بعهد ملوك الطوائف.
من هذه الفقرات التي اقتطفناها باختصار من (دائرة المعارف الإسلامية) تتجلى لنا حقيقة البلاد الأندلسية في مختلف عصورها إلى العهد الذي أصبحت فيه الأندلس تحت حكم المغرب و سيطرة دوله. و إن تلك النتف لتوقفنا – بجلاء و دقة – على ما للمسألة العنصرية في الأندلس, و ما أدت إليه من مصاعب و معضلات, و قد كانت في الأمة داءا عُضالا و شرا مستطيرا.
هل كانت في الأندلس وحدة؟
إن أكبر ما اهتم به الخلفاء في ذلك الوسط الأندلسي المتشعب المضطرب هو العمل على إحلال النظام محل الفوضى, و تحقيق الوحدة حيث كانت الفرقة و الانقسام. و قد توسلوا إلى هدفهم بوسائل القوة و الشدة لأنها وحدها القادر على تمكينهم من بغيتهم, و هي إقامة الوحدة على جهاز محكم متين كما كان الأمر في خلافة المشرق و في ذلك يقول المقري : (لما صارت الأندلس لبني أمية, و توارثوا ممالكها, و انقاد إليهم كل أبي فيها, و أطاعهم كل عصي, عظمت الدولة بالأندلس و كبرت الهمم, و استتبت الأحوال و ترتبت القواعد...و كانت قواعدهم إظهار الهيبة و تمكن الناموس من قلوب العالم.).
و قد وفق الأمويون – كما يقول ليفي بروفنسال – إلى تحقيق منيتهم لمدة تكاد تبلغ قرنا, و كانت هي أزهى عصور الإسلام في الأندلس على الإطلاق, و لكن ما كادت تشرف الدولة على الانحطاط حتى تفككت عرى تلك الوحدة القائمة على الجبروت و الإرهاب, و عادت العناصر إلى اختلافها و تطاحنها, فكانت الفتنة الكبرى التي استأصلت الدولة و مزقتها شر ممزق, و انتشرت الحرب الأهلية في مختلف الجهات, و قامت الأحزاب تتطاحن في شبه الجزيرة الأندلسية, و كانت في تطاحنها هذا جنسية أكثر منها دينية. و لم تتكون هذه الأحزاب و تدرك ما كان لها من الشأن إلا بسبب السير الطبيعي الذي سارت عليه العناصر و العصبيات.
فالأندلس لم يتحد أمرها إلا في عهد كبار الخلفاء من الأمويين, و قد كان هذا الاتحاد سياسيا مجردا, بمعنى أنه كان ناشئا عن قوة الدولة في عهد ملوكها العظام, و كان موقوتا بزمن هؤلاء الحكام, و إلا فإن الأمويين أنفسهم لم يستطيعوا أن يوحدوا بين سكان الأندلس توحيدا عنصريا كاملا بحيث يصبحون شعبا واحدا بكل معنى الكلمة, و كذلك كان أمرهم في المشرق فإنهم لم يستطيعوا – كما تقول دائرة المعارف الإسلامية – أن يجعلوا الإمبراطورية العربية المترامية الأطراف وحدة متجانسة. و هذا هو الذي عجز العباسيون أيضا عن تحقيقه, و قد استطاع هؤلاء أن يكملوا توحيد العالم الإسلامي من الوجهتين العقلية و المعنوية, و كان الأمويون قد شرعوا في هذا من قبل.
الأندلس في عهد عبد الرحمان الثالث:
يقول الأستاذ ليفي بروفنسال ما نعربه بإيجاز : (من بين جميع عصور التاريخ الأندلسي الذي يمتاز بالاضطرابات و القلاقل التي لا تكاد تفتر يجب أن نستثني القرن العاشر الميلادي (القرن الرابع الهجري) فإنه شاهد نشوء الخلافة الإسبانية و بلوغها الذروة, كما شاهد تتويج عمل نشر الإسلام و بسط الأمن الذي قام به الأمراء الأمويون بقرطبة. فهذا القرن في تاريخ الإسلام الإسباني يمثل زمن فترة في حركة العصيان التقليدية و عصر هدنة داخلية لم يسبق لها مثيل ). و قد كتب المستشرق المذكور في دائرة المعارف الإسلامية ما نقتبسه بإيجاز: (ليس في تاريخ العصر الإسلامي في الأندلس عهد أزهى و أبهر من عهد عبد الرحمان الثالث, كان حكمه طويلا فقد حكم نصف قرن: من 300 إلى 350 (912-961م) فتمكن الأمير من تنفيذ سياسته تنفيذا متواصلا منقطع النظير و ساعدته هذه المزايا على أن يخمد مراكز الثورة المختلفة التي كانت لا تهدأ في الأندلس منذ أن دخلها المسلمون, و ظلت البلاد هادئة عشرات السنين. و في عهد عبد الرحمان الثالث و خليفته الحكم الثاني, و في العهد الذي كان الأمر في قبضة المنصور و المظفر الدكتاتوريين العامريين, بلغ ملك المسلمين في الأندلس أوج عظمته, و لم تستطع الأندلس بعد ذلك (أي في عصر المرابطين و الموحدين و لا في عهد النصيريين بغرناطة) أن تصل في نظر العالمين الإسلامي و المسيحي إلى النفوذ السياسي و المدنية الزاهرة اللذين بلغتهما في عهد هؤلاء , و لا في أن يكون لها الشأن الأول في الغرب و أوربا و إفريقية).
و باختصار لا يحق لنا بعد ما أسلفناه من الحقائق و ذكرناه من بيانات المؤرخين الذين هم عمدة في الموضوع أن ندعي أن الأندلس لم تكن فيها مشكلة جنسية, و أنها كانت شعبا واحدا آية في الاطمئنان و مثالا في التجانس من البداية إلى النهاية. فالوحدة – كما رأينا- إنما لمعت لمع البرق في سماء الأندلس, و لم تكن هي السائدة في تاريخها حتى يصح أن نجعلها السبب الرئيسي فيما بلغه ازدهار الثقافة الأندلسية من علو و اتساع و إنتاج. فكل ما يتخيله الإنسان من وحدة الأندلس إنما هو من قبيل المنية, و لو تحققت لكان شأن الأندلسيين في السياسة و العلم و الحكمة و الآداب غير شأنهم المعروف.
المصدر: محمد حسن الوزاني "حرب القلم" الجزء 6. صفحة 108-119. إصدار مؤسسة محمد حسن الوزاني.
صلة الرحم بالأندلس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق