الخميس، 26 مايو 2022

مقال "من لغو الصيف" لأحمد بناني.

 مقال "من لغو الصيف" لأحمد بناني. على هامش مقال "شباب غفل"

مدونة صلة الرحم بالأندلس.

من مجلة الثقافة المغربية.
العدد 13. 23 جمادى الأولى عام 1357 - موافق 21 يوليوز 1938.

كانت الليلة ليلة صيف حارة, هجر فيها النوم مقلتي, ففتحت نوافذ غرفتي, و اضطجعتُ مستريحا على مقعد طويل بين رفوف كتبي أطالع بل أتصفح مجلات على ضوء ضئيل لأقتل الوقت منتظرا هبوب نسيم الهزيع الأخير من الليل, و أخيرا ثرت بين حالة النائم و اليقظ, أنتبه تارة و تارة تأخذني سنة خفيفة, فأهيم في عالم الأحلام اللذيذة. و بينما أنا في هذا السكون العميق إذ نفذ إلى أذني حفيف أوراق, فظننتُ أنه فأر جاء زائرا خزانتي في هذه الليلة, فلم أُعر له بالا, و لكن ىسرعان ما تعاظم الأمرُ, و ارتجت الرفوف, و انهارت الكتب على الأرض, و صارت تقفز و تطير و تتصادمُ, فدخلني رعب عظيم, ثم تضاعف ذهولي و كدتُ أفقد شعوري لما سمعتُ أصواتا ترتفع من طيات الكتب: "صاحبي...نعم...صاحبي أحسن من صاحبك...الرافعي...العقاد..." و لولا هذه الأصوات السحرية الموسيقية و هذا الحوار اللطيف و هذا الجدال الأدبي الممتع لخرجتُ فارّا, و لصرتُ أضيح مستغيثا, لكنني استجمعتُ قواي, و أمعنتُ النظر, فإذا بالثورة القائمة هي بين كتب العقاد و الرافعي و أعداد أخيرة من "الرسالة" بها مقالات لأنصارهما و خصومهما؛ ثم صار الضجيج يكثر, و الملاكمة تشتد, و إذا برأس ضخم يخرج من كتاب "في الأدب الجاهلي" يصيح قائلا: "يمكن أن يكون الرافعي أحسن من العقاد, و يستطيع العقاد أن يكون أحسن من الرافعي, و ليس الرافعي أحسن من العقاد, و لا العقاد أحسن من الرافعي, على أننا نستطيع أن نتساءل هل هناك عقاد و هل هناك رافعي, و نستطيع أن نتساءل هل هذه الكتب التي ننسبها لهما هي صكك ثابتة, أم هي كالمعلقات منحولة...".




ثم أطلت رؤوس أخرى من كتب أخرى تحتج و تدافع و تناضل, و توازن و تُفاضل, و إذا بكتاب "النثر الفني" يضرب صفوف الكتب و يتقدم و يخرج صاحبه منه و هو مُخاصِر ليلى و يقول في خُيلاء: "اختلفوا ما شئتم, فلن يستطيع العقاد أن يكون أحسن من الرافعي, و لا الرافعي أحسن من العقاد, إلا يوم أضع عن أحدهما كتابا مثل كتابي عن الشؤيف الرضي". فقلتُ في نفسي: لا شك أن هؤلاء القوم لهم اتصال بشياطين الشعراء. إذن هذه فرصة ثمينة للسؤال عن شيطان أديب سَلا المفقود (1).

فانحنيتُ على كتاب هادئ أضناه تعب الجدال, فسلمتُ عليه و أعدتُ له السلام و كررته و أسرفتُ في قولي "سيدي" و "مولاي", فصاح الكتاب في ضجر و قلق: دعني من هذه الزخارف و هذه الآداب الفارغة التي اصطلحتم عليها معشر البشر. فقلتُ: عفوا إن أسأتُ الأدب, و لم أهتدِ كيف أخاطبكَ, فأنا -عافاك الله- مريض. فقال: هذا عُذرٌ لا نعرفهُ نحن معشر الشياطين, فالأمراض لا تتسلط إلا على المادة. ثم قفزَ و لكمَ كتابا بجانبه لكمة عنيفة إذ سمعَ منه شرا, و عاد قريبا مني. فقلتُ: إن هذا المرض الذي أصابني -عافاك الله- لم يُصب جسمي, و إلا استرشدتُ طبيبا و تداويت. فقال: إذن أنت مصاب في عقلك؟ فقلتُ: و لا هذا, و إلا لو كنتُ مصابا في عقلي لكنتُ الآن بين جدران سيدي ابن عاشر. أنا -عافاك الله- شاب غفل, و هذه شهادة الدبلوم و اللسانس تشهدُ لي بهذا الخزي و العار! ففانتزع مني الشهادات و مزقها و قال: أنا لا أعتبرُ الشهادات, فمن قال لك إنك غفل؟ قلتُ: "الثقافة" قال: "الثقافة؟" فلنبجل الثقافة! الثقافة عندنا معشر الشياطين مقدسة, نحن جنود الثقافة و الشعر و الأدب, لا نعمل إلا لها و لم نُوجد إلا لخدمتها, أينما وُجدنا وُجدت, و كلما فُقِدت فُقِدنا. هي نحن و نحن هي, غرسناها قديما باليونان فأينعت أوراقها, و تعهدناها بالشرق فأثمرت أغصانها, و ها نحن...فقلتُ: عفوا, ليست هذه الثقافة التي أعني, و إنما أعني أوراقا تُطبعُ سماها صاحبها "الثقافة" فضحك ضحكة ارتجت لها أركان الغرفة و قال لي: عجبا لكم معشر البشر ما أكثر هذيانكم, اسمع! ليس لي وقت فارغ لهذا الهذيان, نحن شياطين الأدب العربي في هذه الأيام في معركة عنيفة, انقسمنا نصفين, صفا مع صاحب العقاد, و صفا مع صاحب الرافعي, و إننا نتجلى كل ليلة في كتب العقاد و الرافعي في أي خزانة كانت و نناظر و نحاجج. فقلتُ: ما أسعد حظي بزيارتكم, فبالله عليك ألا أخبرتني عن شيطان أديب يبحث عنه جميع الشباب الغُفل. فقال: و من هو الأديب؟ فقلتُ: أبو زيد. فقال: و من أبو زيد؟ قلتُ: الساكنُ بسلا. فقال: عجبا! يذكرني كلامك هذا بقول شاعر القرون الخوالي:

سألنا عن ثمالة كل حي   *** و كلهم أجاب: و من ثمالة؟
فقلت: محمد بن يزيد منهم*** فقالوا: الآن زدت بهم جهالة.

فما هي سلا و أين هي؟ قلتُ: لو كنتَ تقرأ "الثقافة" لاطلعت على ما قاله فيها شاب غفل, و لعلمت أنها مدينة جميلة على البحر المحيطي, بها ضريح للعلامة ابن عاشر. فضحك مستهزئا و قال: العلامة ابن عاشر! ألا تعلمُ أن العلماء أعداء الشياطين, و أننا معشر الشياطين لا نألف إلا الشعراء و الأدباء و الفنانين. فقلتُ: أديبُ سلا هذا يدعي أنه شاعر, و لكن...فقال: و لكن ماذا؟ فقلتُ: من سوء حظه أنه منذ اتصل بالشباب الغفل في مهنة يتعاطاها, صار يدعي أن شيطانه فر منه, و نحن خدمة للأدب و إخلاصا للفن نبحث عنه. فقال: أمر هذا الشاعر غريب؛ و صار يردد: أبو زيد...سلا...فصاح شيطان من كتاب كان يسمعنا و قال: نعم, نعم, أنا أعرف أديبا بسلا؛ فتروى الشيطان قليلا و قال: الآن عرفته, هيا بنا إليه, فأخذ بيدي و طرنا إلى أن وصلنا إلى حي بسلا منعزل هادئ, و نزلنا على جدران مهدمة تحسبها أطلالا فتسربناها, فإذا ليس بها إلا صحن كله تراب, و بوسطه رجل متين الجثة, أسمر اللون, مبيض الشعر, و على عينيه الضيقتين نظارتان, و بين يدي الشيخ كتب مفتوحة من جهة ديوان الشريف الرضي و صفي الدين الحلي, و من جهة أخرى أضغاث أوراق بها قصائد الشعر الملحون لسيدي التهامي المدغري و غيره. فصحتُ قائلا: ليس هذا أديب سلا الذي نبحثُ عن شيطانه, فقال الشيطان: لا تُزعج الشيخ الحكيم, فإنه عزيز عندنا إذ يحتفظُ لأدب بلادكم بهذه الأوراق البالية الحاوية لأشعار الملحون التي هي أحسنُ ما أوحيناه لكم و خير تراث شعرائكم, و هو إلى ذلك فرع شجرة طيبة, و مراعاته علينا واجبة. قلتُ: ما كُنتُ أظن أن هذا الشيخ المنعزل بهذه المكانة عندكم. قال: تبا لكم, أتظنون أن الشعر عندنا هو ذلك الكلام الموزون الذي يجمع شعراؤكم المعاصرون قوافيه من مختار الصحاح و المصباح, فلا ينطقون بما يشعرون, و لكن بما يسعه الوزن و تتحمله القافية؟ إن هذا الشعر الملحون الذي بين يديه و إن لم يحظ بالطبع على ورق صقيل, مزدان بالصور و خداع العناوين فهي وحي مردة الشياطين, و لكن ضاع رواؤه فيكم, فهجرتموه لضرير يتوسل به, أو دميم وجه يتكفف به أو منكر صوت يصيح به. ثم قال و قد خرجنا من خلوة الشيخ: أين منزل أديبك؟ قلت: قريب, و هو منزل أنيق تزينه خزانة تزخر بكتب اللغة و فقه اللغة و الدواوين الشعرية و شروحها. فقال لي: ويحك! لو قلتَ لي هذا في البداية لاتضح الأمر. الآن عرفتُ لماذا هجره أخونا شيطانه؛ إنه لم يهجره لأجل الشباب الغفل, و إنما هجره لأننا معشر الشياطين لا نجتمعُ و كتب اللغة في مكان واحد, نحن أعداء المقاييس و الموازين, نحن نهوى من يصدع عفوا بما نوحي إليه من المعاني؛ إن المعاني التي ننزل بها على أصحابها هي فلذات أكبادنا, و يعز علينا أن نراها سجينة في قوالب النحو و اللغة الضيقة الجافة.



و بينما نحن في هذا الحديث إذ لاحت لنا بناية واسعة الأرجاء, كثيرة النوافذ, حديثة العهد, فقال الشيطان: ما هذه البناية؟ قلتُ: هذه مدرسة (أي معمل من المعامل التي يُصنعُ بها الشباب الغفل) ثم زدت قائلا: هل منكم من يعرف شبانا أغفالا, أم أنتم على رأي صاحب "الثقافة" من أن الشباب الغفل لا صلة له بالأدب و لا صلة له بالشعر؟ فقال: معاذ الله! إن الشباب الغفل هم أبناؤنا و جنود من جنودنا و ما أعزهم عندنا؛ أرسلناهم ليتمردوا و يثوروا و يهاجموا و يُهدموا, فإذا قاموا بهذا الطور, طور التمرد و الثورة و الهجوم و الهدم و جلسوا يرتاحون, جعلنا جزاءهم ما نكنز لهم من شعر و أدب و فن و فلسفة؛ أما الآن فالعصر عصر هدم, و لن تسمع قيثارة شاعر, بل لن تسمع إلا المعول الهدام. و ما قطع علينا هذا الحديث في هذا الصبح الهادئ و هذا الهدوء السائد إلا وقع أقدام, فصمتنا و سكتنا ننظر من أعلى الجدران و إذا بالمار هو صاحب "الثقافة" فقلت للشيطان: أتعرف من القادم, هو صاحب "الثقافة". ثم سألته هلا تخبرني هل له شيطان عندكم؟ فقال: شيطانه من الإنس لا من الجن و لكن لتعلمن نبأه بعد حين, إن شيطان الإنس أشد بطشا و أقوى نكالا من شياطين الجن, ثم ويل لمن تآمرت عليه شياطين الإنس و الجن!

أسرَ بهذا و جذبنس قائلا: هيا بنا فقد آن للصبح أن ينفلقَ و آن لنا أن نختفي, فنحن أعداء النور و لا نهوى إلا الظلام. فما هي إلا لمحة بصر و إذا أنا في مكاني ممتد على مقعدي, فقال: وداعا. قلتُ: فهل لك أن تخبرني أي أديب أنت شيطانه؟ فقال: أتظن أنك تستطيع أن تعبث بالشياطين؟ واه لك! لقد صدق من قال إنك...(1).
                                                                                                                                                                           ....شاب غفل. فاس.



1- صاحب المقال الذي لم يعلن عن اسمه هو الاستاذ أحمد بناني, أحد أعضاء أسرة المغرب الثقافي.


مقال "شباب غفل" للمفكر المغربي سعيد حجي.


صلة الرحم بالأندلس.

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا اخي البناني على هذا المقال/ القصص
    الجميل..
    رايتهم ومشيت معهم ذات يوم
    اذ هم " في كل واد يهيمون"
    ومنهم مسحورون بزخرف القول- نجانا الله منه واياكم-..
    في انتظار ان تبهجونا بلغو الخريف.
    تحياتي ومودتي

    ردحذف